التفكيك والتشكيك

محمد زكي ابراهيم

لقد اعتدنا أن نتداول في المنطقة العربية مفاهيم مثل الحداثة، وما بعد الحداثة، والبنيوية، والتفكيكية، ونتحمس لها إلى درجة التعصب. وننحاز إليها إلى حد الدهشة. ولا ننفك نكتب، ونرسم، ونتحاور، ونتخاصم، بآخر ما انتهت إليه هذه المدارس من تقنيات!

وربما نكون معذورين بشكل ما في هذا، فقد جاءتنا الحداثة في حقبة الاستعمار التي أصابتنا في مقتل. كان هناك مزيد من التقدم في أوربا، يقابله الكثير من التخلف لدينا. فبدت الحداثة بالنسبة إلينا ذروة ما وصلت إليه الحضارة الغربية من إنجازات، دون أن ندرك أنها كانت على حسابنا نحن، والشعوب الفقيرة الأخرى، في القارات الثلاث.

وقد سمحت هذه الحقبة بظهور بعض الحركات التحررية والوطنية والعقائدية، التي قاومت نزعة الاستعمار هذه. وكان فيها الكثير من الاحتفاء بالواقع الموضوعي، والثوابت المعرفية، والقيم العقلانية، والنزعات الأخلاقية. وظهرت خلالها تقنيات، وأفكار، وكتابات، ومعارض فنية، وغير ذلك من أمور.

لقد كان الكم الهائل من الإنجازات نتيجة مباشرة لتراكم الرأسمال الغربي. وهو ما لم يحصل لدينا بالطبع، فلم تكن لدينا موارد مالية، تسمح لنا بامتلاك هذه الميزة. وكان أن بقينا نستهلك ما يصدر إلينا فحسب.

بيد أن التغييرات الطبيعية التي كابدها النظام الرأسمالي الغربي عجلت بظهور العولمة في تسعينات القرن الماضي. وهي حركة ترمي إلى تقويض المباني الفكرية التي أقامتها الحداثة خلال قرن أو يزيد. وظهرت التفكيكية التي ألغت النظام المركزي، والمقولات الأساسية، وأفكار عصر الأنوار، والمعارف الأخلاقية. وحصرت إدراك الإنسان لواقعه عبر مصالحه الاقتصادية وغرائزه الجنسية. واختفت الميتافيزيقيا أو المعرفة اليقينية بالعالم الخارجي. وبات العالم بنظرها في حركة دائبة، وتغيير مستمر.

ما يثير الدهشة أن تناقضات كهذه لم تخطر لنا على بال، حتى تصورنا أنها حبل الإنقاذ الذي نلج به إلى روح العصر، والمركبة التي بواسطتها نختصر الزمن. فأعلنا القطيعة مع الذات، وأقمنا الحواجز مع العقل. واستبدلنا التجاوز بالإلحاد، وضربنا الأخلاق عرض الحائط. وأدرنا ظهرنا لكل شئ جميل في هذا العالم.

إن ما بعد الحداثة، أو ما بعد البنيوية، ليست إلا معاول للهدم، وأدوات للتفكيك. حتى لو بدت تطوراً طبيعياً في الثقافة الغربية. فليس في منهجها أي صلة بين الدال والمدلول، أو المبنى والمعنى، وهي الوظيفة المعتادة للغة. ولم تتبين طريقها نحو المستقبل، فكل شئ فيها يسير نحو الخراب، الذي لا ينتج سوى الفوضى. ولا يكترث إلا للغريزة.  وحينما تغيب هذه الأسس عن الواقع، فإن كل شئ سيكون مصيره العدم، واللامعقول، واللاجدوى.

ليس ثمة ما يربطنا بمثل هذه الأفكار، إذا ما صنعنا حداثتنا بأيدينا. وبنينا حضارتنا بأنفسنا. فما بعد الحداثة الغربية ليست هي الخيار الوحيد المتاح أمامنا. ولا الأمل اليتيم المرسوم لنا. بل أن هناك الكثير الذي يجعلنا أقرب للواقع والحقيقة، والثبات والاستقرار، مما يتصوره الآخرون!

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة