شيء من أدب اللامعقول والعبث في اطار سيكودراما
خالد ربيع السيد
وأنت تشاهد فيلم «ديكور» إنتاج عام 2014م، من اخراج أحمد عبدالله السيد وتأليف شيرين ومحمد دياب ستعيش مع “مها” (حورية فرغلي) وحيرتها التي أدت بها الى صراع نفسي وانفصام حاد، وبالتالي ستؤدي بك الى نفس الحيرة، وأنت تشاهده لا تبحث عن قصة مترابطة ومنطق متسلسل وحبكة تقليدية، فأنت أمام عمل نهل من أدب اللامعقول والعبث Literature irrational and tampering في اطار دراما نفسية، بل أنه عمل يمارس عليك لعبة التخييل النفسي Psychological imagination.
“مها” التي تعمل مهندسة ديكور، وتسعى لبناء مستقبلها المهني وتحقيق ذاتها بكل جدية، ولتُشكل مع زميلها أو زوجها (فرضياً) “شريف” (خالد أبو النجا) الخلفية لإنتاج فيلم يتفاعل مع الحب. تسعى مها إلى الكمال في عملها، إلا أن ضغط الوقت لا يدع لها فرصة للاستمتاع بالعمل والحياة معاً، وإنما يتسبب فقط في الإحساس بالضغط والارهاق.
إننا أمام دراما نفسية Psychodrama مربكة تدور حول ثنائيات الماضي والحاضر والمتاح والمأمول والحقيقة والوهم والمرغوب والممنوع. وسؤالين: هل العالم الحقيقي الذي نعيشه هو بعيد عن العالم المتخيل أم ممتزج معه؟ وهل الاختيارات التي نختارها في حياتنا تكون متاحة وممكنة أم تحكمنا بعض العوامل الأخرى؟ هل نحن أحرار في ذواتنا؟ وكيف تؤثر الحرية على خياراتنا؟ هذا ما ينبغي أن نفكر فيه بعد مشاهدة الفيلم. وهناك محاور أخرى جديرة بالتأمل. إنه فيلم عن خيارات الحب والزواج والمصير والدور. كتابة ذكية لفيلم سيدوم ويخلد، لأنه فيلم تأسيسي لم يطرح موضوعه من قبل سواء في الرواية أو السينما. هكذا أعتقد.
المأزق الذي نعيشه.. أحياناً
من منا، نحن المتزوجون والمتزوجات، الذي لم يفكر أو تفكر وتتخيل للحظات متفرقة، لو أنه تزوج(ت) فلان(ة) بدلا عن فلان. سنذهب بخيالنا بين عالمين، وسنقارن ونحتار، انها ألعاب ذهنية يجريها العقل بالمشاركة مع الوجدان في غمرة الواقع، بسبب عدم وجود السعادة، أو بحثاً عنها… إنه المأزق النفسي الذي أراد أحمد عبدالله السيد والمؤلفان الأخوين شرين ومحمد دياب أن يضعا المشاهد فيه.. حسناً سنتداخل مع الفيلم.
بدايةً، يقدم الفيلم الثالوث الدرامي الشهير: الزوج والزوجة والعشيق أو العشيقة، فلو نظرنا إلى العلاقات الملتبسة بين الأبطال في الفيلم سنجد هذا الثالوث، ولكن لا نتعجل فليست “مها” امرأة بين رجلين: “شريف” و”مصطفى”، إنها أمام أزمة الاختيار التي تتيحها الحرية، فكل منهما يؤدى في نفس اللحظة دور الزوج والعشيق، ولكن مها في عالمين، حياتين، واقعية وخيالية أو مشتهاة.
امرأة بين رجلين
هكذا، تظهر مها وهي امرأة شابة حالمة رومانسية تمتلك جاليري تعمل به في الديكورات والتحف حيث تخصصت في دراسة الديكور المنزلي ثم ديكورات الافلام، ولكن حياتها لا تخلو من المشاكل الزوجية مع زوجها شريف (؟) مما جعل كل منهما يقرر التخلي عن الآخر والانفصال بعد حب دام لسنوات طويلة قبل الزواج، وهنا تتخلى مها عن حياتها التي تذكرها بطليقها (؟) شريف وتنتقل لتبدأ حياة جديدة في مدينة جديدة ومهنة جديدة، تسافر إلى مدينة أخرى لتعمل مدرسة في احدي المدارس الاعدادية، وتبدء حياة أخرى فتتعرف على أحد زملائها بالمدرسة “مصطفى” (ماجد الكدواني)، وتنشأ بينهما قصة حب تتوج بالزواج، وبعد شهور تنجب طفلتها الأولى (هيا) وتحقق حلم الأمومة الذي راودها، ولكن القدر لا يمنحها فرصة السعادة فنشبت الخلافات بينها وبين زوجها الثاني لتنهي زيجتها الثانية بالطلاق أيضًا.
ولكن مها لم تستسلم لتعاسة قدرها وتقرر أن تمنح قلبها فرصة جديدة في بلد آخر، فتأخذ بنتها وتسافر وهناك تتعرف على زوجها(!) ويصالحها القدر فتتزوج منه وتعيش معه حياتها الهادئة التي تمنتها من البداية، وفي نهاية الأحداث نكتشف أن كل ما مرت به مها من زيجات وانفصال ورجلين وإبنة وسفر من بلد لآخر ما هولا حلم طويل تفيق منه لتبدأ حياتها الواقعية. أو بقول آخر: الحياتين المتخيلتين اللتين يجب أن تختار مها واحدة منهما.
لنرجع من البداية، سنجد أن السرد يبدأ في اللعب على الحياتين فنصل قرب نهاية الفيلم إلى عدم معرفة أيهما الحقيقي وأيها المتخيل فكلاهما له وجهته في السياق والأحداث لتظل الشخصية الرئيسة تسير على حافة الحياتين حتى يصل العمل إلى نقطة التقائهما، فالسيناريو يقارن بين اختيار البطلة في حياتها كمهندسة ديكور وزواجها من أحد زملائها وعملها معه في نفس المجال مع اتفاقهما على عدم الإنجاب، وبين حياتها المتخيلة لو تزوجت جارها مصطفى وعملت كمدرسة وأنجبت منه طفلة. هل هي حالة شيزوفرانيا تعيشها مها؟ وتتخيل الحياة التي أحبتها وكأنها واقعها؟ هذا ممكن. أو أنها ستتخيل ماذا لو وضعت في كل حياة من هاتين الحياتين.
خيارين في الخيال
تتكشف تبعات خيارات مها عندما تبدأ في تغيير واقعها في الحياتين؛ فعندما قررت التخلي عن شريف لتجد مصطفى ما زال يعيش على ذكرى حبهما فلم يتزوج ويعيش حياته مغرقاً في سماع ومشاهدة الأعمال الفنية القديمة بينما في الحياة الأخرى عندما تترك مصطفى تجد أن شريف قد غير مسار حياته وتزوج من إحدى الممثلات وأنجب طفلا على غير ما اعتقدت. ما هذه الشوشرة التي يرويها الفيلم؟
في كلتا الحياتين تلجأ مها لنفس الطبيب النفسي ونفس العيادة مع الزوجين بسبب تتدهور، حالتها ويأمر الطبيب بإدخالها لإحدى المصحات النفسية لتبدأ في استيعاب حقيقة الأمور بعد امتثالها للعلاج. في لحظة يصدمها مشهد للراقصة “صافيناز” في أحد الأفلام التي تشاهدها، فتقف مذهولة أو مصدومة لثوان، فيا ترى ماذا جال بعقلها في تلك اللحظة؟ هل تلك هي الحقيقة الوحيدة في حياتها أنها أصبحت راقصة ترقص بين رجلين؟ وكله في خيالها!.
ثم سنتسائل: ما تأثيرات والدتها عليها (الممثلة منحة البطراوي)، نرى في مشهد مهم كيف أن مها أخذت تعاتب أمها وتلومها بأنها السبب في تشكيل حياتها وتحديد خياراتها. وأيضاً لا يغيب عنا مسألة الإنجاب واتفاقها مع أحد الأزواج بعدم الإنجاب (شريف)، بينما نجدها أنجبت طفلة (هيا) من مصطفى في الخيال الثاني.
ثم بحضور شريف ومصطفى ترفض مها الاختيارين لتسدل الستار عنهما لتبدأ في اختيار حياتها الجديدة في مشهد مماثل لمشاهد نهاية أفلام فاتن حمامة وتأخذنا الكاميرا في جولة داخل قاعة سينما يجلس أبطال الفيلم الذي شاهدناه يتلقون تهاني الجمهور على فيلمهم . ثم بصحبة شاب وفتاة من الجمهور نخرج مع الكاميرا إلى الشارع فيتغير لون الشاشة من الأبيض والأسود إلى الألوان بعد اصطدام سيارتين ببعضهما. وكأن كل ما حدث لم يكن سوى فيلم وليس حياة.
صعوبة التمييز بين الوهم والحقيقية
يرسم الفيلم صورة لعالَمين بالأبيض والأسود بنعومة وبطريقة تكاد تكون حالمة ولكنها مربكة للمشاهد، سيجد نفسه تائهاً في خلط محير في عموم القصة. وسريعًا يفقد القدرة على التمييز بين العالمين وأيهما الحقيقي وأيهما الوهم: هنا المرأة العاملة الناجحة والمضغوطة، وهناك المحبوبة والأم التعيسة، وهناك المريضة بالفصام التي يدور ذلك كله حولها أو داخلها، لا ندري، إنه فيلم عن قصة حدثت ولم تحدث وهو فيلم حدث ولم يحدث أيضاً، انه تلاعب (مقصود) على ما يدركه المشاهد وعلى ما لا يدركه.
تتشابك موضوعات العالمين بصورة يوجهها العامل الثابت الوحيد المتمثل في الطبيب النفسي. فهل الثلاثة راضون فعلًا عن ماضي مها وحاضرها؟ هل شريف ومصطفى حقيقيون؟ ومن هم أصلاً؟ إنه الارباك المقصود الذي يتيح للمشاهد أن ينسج القصة كيفما يشاء، وتجعله يفكر ويتأمل كما يشاء. هل هو أدب اللامعقول؟ أو أدب العبث؟ ربما.
هل مها لم تتزوج أصلاً، وكل ما يحدث هو صراع نفسي تعيشة، وتحتار من تختار؟
فريق عمل رفيع
الفيلم يجبر المشاهد المتأمل والمتخصص الانتباه الى حرفية المونتير “سارة عبدالله”، فالفيلم قائم على التقطيع والتداخل بمدد زمنية لا مجال للخطأ فيها وهذا ما فعلته سارة بكل اقتدار، وبالطبع سننتبه لدقة مهندس الصوت أحمد مصطفى صالح في تجويد صوت كل لقطة بما فيها من خلفيات المكان والوقت والشعور الذي يريد ايصاله، وكذلك الحال في الموسيقى التصويرية الحسية النابهة في تأثيرها لخالد الكمار وأحمد مصطفى، ناهيك عن مدير التصوير طارق حنفي. انه حقيقة فريق عمل متكامل ومن المؤكد أن يسري نصر الله الذي ورد اسمه في التتر، وكذلك ابراهيم البطوط الذي ظهر في المشاهد الأولى كان لهما تأثيرهما المهم في تحقيق الفيلم بهذه الكيفية المتجاوزة للسائد.
أداء حورية فرغلي
بين هذا وذاك تتألق حورية فرغلي في أداء دور مركب ونفسي ومعقد بكيفية لا تترك للمشاهد ثانية للإعتقاد بأنها تمثل، انها متقمصة للشخصية الى أقصى درجات التقمص، وبما يذكر بممثلي مدرسة أستديو الممثل Actor’s Studio التي خرجت كبار ممثلي الفن السينمائي في أمريكا.
انها ـ مها ـ توظف صوتها المتهدج والخفيض بما يوحي بما تعانيه في داخلها، وكذلك نظرات عينيها الزائغة والمرتبكة والخائفة،(انها لا تنظر لأحد في عينيه أو وجهه)، وأيضاً لغة جسدها الذي تعتريه ايماءات صغيرة تشير الى الرغبة في الهرب، بل أن تعابير وجهها في كثير من المشاهد تحيل الى أن شخصية مها عائشة في داخلها بصراعها وتأزماتها بحضور كامل. هكذا ولا أجد حرجاً في أن أقرر بأنها تفوقت على خالد أبوالنجا وماجد الكدواني في جعل هذا الفيلم متميزاً ببصمتها الأدائية المبدعة. والحقيقة أن أدائها في هذا الدور يذكرنا بدورها المتميز في مسلسل ساحرة الجنوب.
إذن حتى لا أطيل، فختاماً لا يفوتنا أن الفيلم ممثلاً في مخرجه وكاتبيه، يقدم تحية للشخصيات النسائية في السينما المصرية، وللمرأة الحرة بشكل عام، حيث نرى في الخلفية بصورة متكررة مشاهد من أفلام فاتن حمامة، بما يذكّر بفيلم «الليلة الأخيرة» لفاتن حمامة ومحمود مرسي، اخراج كمال الشيخ. وهذه سانحة لأن نشاهد ذلك الفيلم مجدداً…. مها تعشق أفلام فاتن حمامة، وهذا بمثابة إشارة لرغبتها في أن تكون حرة وقوية ورصينة مثلها. ويبقى الكثير ليقوله المشاهد لنفسه ويحدث به ذاته.