خالد ربيع السيد
في آخر شهر سبتمبر من كل عام تحين ذكرى وفاة المخرج المسرحي والسينمائي الأمريكي اليوناني إليا كازان. الشخصية المؤثرة في برودواي وهوليوود، وفي الثقافة الأمريكية الفنية كلها. لا سيما وهو مكتشف ومدرّب العديد من نجوم السينما العالمية، من بينهم مارلون براندو وجيمس دين، آل بشينو، روبيرت دينيرو، ميريل استريب جاك نيكلسون، جين فوندا، أنتوني هوبكنز والعشرات من الممثلين والممثلات الأكثر تميزاً في تاريخ هوليوود، حيث شرّبهم تلك الفلسفة القائمة على ما أطلق عليه “المدرسة الأسلوبية في الأداء” أو (أستديو الممثل) والتي تحث وتعلم الممثل الاعتماد علي نفسه كمصدر أساسي في التقمص والأداء بدرجة أكثر مما هو مكتوب في السيناريو أو من توجيهات المخرج ذاته، وبدلاً من أن “يقلد” الممثل الشخصية الخيالية الموجودة في السيناريو, فإنه يتعين عليه أن يقوم بالبحث في داخله عن مشاعر مشابهة لمشاعر الشخصية، فيستوحيها ويتقمصها ثم يتصرف (يمثل) على أساس أسلوبه الذاتي ليتحول هو نفسه إلى (الكاركتر) بشرط أن يترك له المخرج حرية الأداء .
مسرحي يساري
ولد إليا كازان في السابع من سبتمبر 1909 لأبوين يونانيين كانا يعملان في تجارة السجاد في القسطنطينية، و هاجر بعد أربعة سنوات من ذلك التاريخ الى الولايات المتحدة، وكان قد كابد خلال دراسته للغة الانكليزية في معهد وليامز، الذي تخرج منه في سنة 1930، قسوة إقصائه من أوساط النخبة البيضاء في الولايات المتحدة التي تضم البيض الانغلوسكسون البروتستانت.
الحقيقة أنه كان يسارياً مقتنعاً، وناشطاً مؤثراً في التكتل الشيوعي الأمريكي منذ العام 1934 الى العام 1936. و تنامى دوره في الأوساط الفنية اليسارية قبل الحرب العالمية الثانية تنامياً ملحوظاً. درس قبل ذلك الفن المسرحي في مدينة بال مدة سنتين قبل أن ينضم في سنة 1932 الى فرقة “مجموعة المسرح” ـ مؤسسها لي ستراسبرغ وهارولد كلورمان ـ التي كانت تؤمن بالافكار التقدمية وبالعمل الجماعي، وشكلت احد أقطاب الحركة المسرحية في نيويورك إبان الثلاثينيات.
بين برودواي وفوكس
كان أيضاً ناشطاً في “المسرح الفدرالي” الذي أسسه أورسون ويلز وجون هاوسمان، وخلال سنوات الإعداد المسرحي هذه مارس العديد من المهن منها: مسئول عن إكسسوارات الممثلين، و ممثل، و مساعد مخرج ، ثم مخرج مسرحي، أخرج العديد من المسرحيات الاجتماعية الجيدة. وعندما أقفل محترف «مجموعة المسرح» ذهب كازان الى هوليوود حيث لعب دورين في فيلمين للمخرج أناتول ليتفاك، ولدى عودته الى نيويورك أصبح خلال الحرب العالمية الثانية أحد ألمع المخرجين المسرحيين في برودواي. وصادف أن كانت شركة “فوكس” تبحث عن مواهب جديدة فاستدعته، وكان سنتها في الثلاثينيات من عمره، وقد عرف العمل السينمائي عبر بضعة أفلام وثائقية وأفلام روائية قصيرة، بيد انه بإنضمامه الى “فوكس” حظى بخبرات عملية منهجية، خاصة على يد ليون شامروي الذي سيغدو مديراً لتصوير فيلمه الأول (شجرة تنمو في بروكلين) سنة 1945 .
توالت أفلامه ذات الطابع الاجتماعي الغزير للمنتج “داريل زانوك” فأنتج له “بوميرانغ” و “جنتلمان”سنة 1947، حيث حاز الأخير على العديد من جوائز الأوسكار، ثم تناول موضوع العنصرية في الجنوب الأمريكي في فيلم “الوردي” سنة 1949، الذي كان قد بدأه جون فورد.
قفزة “عربة تدعى الرغبة”
لكن صورة إيليا كازان المخرج الفذّ والمدير البارع للممثلين لم تكتمل إلا مع فيلم “ذعر في الشوارع” والذي صوّر بالكامل في شوارع نيوأورليانز، كفيلم سوداوي يحكي عن تفشي داء الطاعون في مدينة يحكمها رجال العصابات. في بداية عام 1952 أنجز أحد أهم أعماله السينمائية للكاتب “تنيسي ويليامز” تحت عنوان “عربة تدعى الرغبة” بطولة مارلون براندو وفيفان لي، وكان قد قدم نفس القصة كمسرحية على خشبة أحد مسارح برودواي عام 1947 مع براندو وكيم هانتر.
و الملاحظ في سيرة كازان أن عمله في المسرح لم ينقطع البتة طوال سني حياته، فكان يعمل في السينما و المسرح في آن واحد، ولكن فيلمه الأثير سابق الذكر “عربة تدعى الرغبة” يعتبر التجربة الأولى والناجحة لمنهجية ومدرسة «الآكتورز أستوديو» التي أسسها سنة 1947 مع شيريل كراوفورد وروبرت لويس، والتي أشرنا إليها في بداية الحديث، فقبل أن يترك مسؤولية إعداد الممثلين لرفيقه المخلص “لي سترايبرغ” كان قد أرسى مفاهيمه ونظرياته وفلسفته في النهج الأسلوبي للأداء التمثيلي، وتخرج على يده في عام 1952 ـ وهو عام ابتعاده عنها ـ كل من : منتجمري كليفت وبول نيومان وعلى رأسهم بالطبع مارلون براندو وجيمس دين.
حملة المكارثية
بكل المقاييس كانت المفارقة السيئة تكمن في أن هذا العام كان عاماً اسوداً في حياة كازان، ففيه كانت الحركة المكارثية في أوج نشاطها، وهي الحملة التي استهدفت اجتثاث الشيوعيين في الولايات المتحدة. . وهنا حدثت الواقعة، حيث كشف عن أسماء زملائه القدامى في الحزب الشيوعي أمام “لجنة الأنشطة المناهضة لامريكا”.. ليس ذلك فقط ولكنه ارتكب خطأ جسيما آخراً، ونشر بياناً في صحيفة نيويورك تايمز يدافع فيه عن شهادته أمام اللجنة ، فعرف من لم يعرف، وتفرج من لم يشتر، وانقلبت الدنيا على رأس الرجل. أولاً وصفوه بالمرشد والخائن والعميل… الخ، وثانياً راح النقاد يحللون أفلامه على إنها أعمال تبريرية لفعلته، حتى أن أشهر أفلامه على الإطلاق “جبهة الماء” أصبح بعض النقاد يعتبرونه دفاعا سافراً وممجوجاً عن جريمته في الإرشاد عن أسماء الشيوعيين. .
نميمة ممنهجة بغيضة
المكارثية إذن سلوك يقوم بتوجيه الاتهامات بالتآمر والخيانة دون الاهتمام بالأدلة. ينسب هذا الاتجاه إلى عضو بمجلس الشيوخ الأمريكي اسمه جوزيف مكارثي. كان رئيساً لإحدى اللجان الفرعية بالمجلس واتهم عدداً من موظفي الحكومة وبخاصة وزارة الخارجية، وقاد إلى حبس بعضهم بتهمة أنهم شيوعيون يعملون لمصلحة الاتحاد السوفيتي. وقد تبين فيما بعد أن معظم اتهاماته كانت على غير أساس. وأصدر المجلس في عام 1954 قراراً بتوجيه اللوم عليه. وصار يستخدم هذا المصطلح للتعبير عن الإرهاب الثقافي الموجه ضد المثقفين. وفي خضم ذلك انخرط إيليا كازان.. علينا أن نسأل ونحاول إيجاد إجابة على السؤال: لماذا فعل ذلك إياليا كازان؟
وشاية كازان..نقيصته ولعنته
لقد انشق كازان على التجمع الشيوعي الأمريكي قبل نحو 17 عام من حادثة الإفشاء واعتبر حينذاك أن الشيوعية تشكل تهديدا حقيقياً للديمقراطية… هذه الوشاية الخطيئة الخيانة ظل الهوليوديون والسينمائيون في أوروبا كلها، في حالة عجز تامة عن غفرانها، وبقيت نقطة سوداء تلطخ سمعته أينما حل، وبعدها تبرأ رفاقه من صداقته، وبقي معلقاً معزولاً مشوها. حتى بعد سنوات طويلة بقيت وصمة عاره ملتصقة به ، ولن يُنسى احتجاج الجماهير وتصفيرهم وإطلاقهم (أُووووو) بطريقة غير ترحيبية ضدّه عندما ظهر في حفل الأوسكار عام 1999 ليتسلم أوسكاره التكريمي عن مجمل أعماله.
جريرة وشاياته
بأي حال من الأحول لم تفده وشايته تلك على الصعيد الإنساني، رغم رفضه في البداية الأدلاء بشهادته، إلا أنه سرعان ما وجد نفسه منبوذاً بعد أدائها من رفاقه السابقين ولم يكسب بعدها رفاقاً جدداً. ولكن من الناحية المهنية وفّرت له الوشاية موضوعات كثيرة للأفلام التي التبس فيها هاجس الندم بهاجس التبرير محاولاً توضيح أنه تعرض للضغوط الشديدة التي تناولت حياته المهنية مما أجبرته على الرضوخ لها، وبعدها تمت إدانته في حين أُعتبر آخرون كأبطال حريات لأنهم رفضوا الاعتراف والوقيعة بأحد، مما كبلهم خسائر جسيمة ودفعوا الثمن غالياً، ولكنهم كسبوا الاحترام والتقدير الجماهيري.. غير أن التاريخ لا يظلم أحداً فعلى الرغم من أن كازان قد عومل حتى رحيله بوصفه خائناً فليس هناك خلاف حول أهميته السينمائية والفنية، وكثير من عشاق فنه يجدون فيه مثال الإنسان المتمسك بفنه حتى لو دعته الظروف القاهرة الى الفتنة والخيانة.
أعمال متحفية
قدم مع مارلون براندو فيلم ” فيفازاباتا” في العام 1951. وبعد هوجة المكارثية أنتج فيلم “على رصيف الميناء” سنة 1954 مع مارلون براندو أيضا، ثم فيلم “شرقي عدن” 1955 الذي قدم فيه لأول مرة جيمس دين في دور بطولة مطلقة، وفيلم “بيبي دول” 1957 و”النهر المتوحش” 1960 . ثم “امريكا امريكا” 1963 المأخوذة قصته عن روايته التي سرد فيها جزءاً من سيرته الذاتية وأبدى فيها تعلقه بأمريكا وهجرته اليها قادماً من القسطنطينية. ثم قدم فيلم “روعة على العشب” و “التدبير” سنة 1969 وكانا أكثر أفلامه حميميةً . ثم قدم “الزائران” 1971 ، و شارك في تمثيل وإعداد فيلم “الأب الروحي” مع صديقه مارلون براندو في السنة 1972 وأخيراً قدم “آخر الأثرياء” 1976 الذي استعاد فيه خيطه الإبداعي الذي كان يربطه بماضيه المشرق ،. . بعد ذلك توقف عن الاخراج تماماً وتفرغ الى الكتابة السيرية والتأملية.
نهاية ونهاية
إذن قلب كازان صفحة السينما نهائيا في 1976 لينصرف بشكل كامل الى الادب ويصدر في 1995 “وراء بحر ايجة ” الذي تحدث فيه من جديد عن اصوله. ولم تغفر الموهبة والنجاح لكازان تعاونه مع السلطات الاميركية في الخمسينات الذي سمح له بانقاذ حياته الفنية والاستمرار في انتاج الافلام. فقد ترك هذا الحادث بصماته على حياته المهنية..
رحل ايليا كازان في 28 سبتمبر 2003 عن 94 عاماً ، فغابت برحيله احدى أهم الشخصيات السينمائية العالمية في القرن العشرين، تلك الشخصيةً التي أثارت سجالاً فنياً وسياسياً وأخلاقيا لا زال متجدداً كلما ذُكرت سيرته ،و داعياً الى التأمل في الآلية التي يتم بها توريط فنان في لعبة السياسة ومذكراً بالمعركة التي خاضها المحرر التلفزيوني “مورو إدوارد” وفريقه الصحفي ضد السيناتور جوزيف مكارثي، الذي شمل ضرره العديد من ممثلي وممثلات هوليود والمسرحي الكبير آرثر ميللر واب السينما شارلي شابلن.