محمد جبير
وحّدت هجمة كورونا البشرية جمعاء في مواجهة التحديات بين الاجتياح الشامل أو الحدّ من الانتشار الفايروسي العابر للقارات، لاسيما بعد أن فلّ هامش الخوف والقلق من مخاطر هذا الوباء نظراً للنجاحات التي حققتها الصين في احتواء الوباء والسيطرة عليه، ولم تخرج الحالة الصينية من هامش الصراع الاقتصادي مع أمريكا على خلفية التعريفة الكركمية والشركات الصناعية الكبرى الصينية والأمريكية حتى بدا الصراع كأنه صراع مصالح اقتصادية أو توسع في الهيمنة الأمريكية على الأسواق الصينية، ولم ينظر إلى بؤرة ” وهان ” على أنّها كارثة إنسانية لاتعني ” وهان ” وحدها أو الصين وحدها، وأنما قد تهدّد العالم كله، حتى إنّ الصين نفسها لم تأخذ تحضيرات الأطبّاء الذين كشفوا عن مخاطر الفايروس في بداية ظهوره.
إلّا أن الاهتمام المحلّي لم يصاحبه اهتمام على مستوى الدول الكبرى،لأنّ مخاطر هذا الفايروس لم تدرك بعد، وقد استثمر الفايروس مناخ اللا مبالاة ليوسّع من رقعة انتشاره في فضاءات خارج الصين، وكانت البؤرة الكارثية في إيطاليا، بمعنى أنه انتقل من قارّة إلى أخرى، ومناخ وبيئة تختلف عن البيئة التي ظهر فيها أول مرة، وقفز من دولة نمور صاعدة إلى إحدى دول العشرين الصناعية الأكثر تقدما في العالم، ومن دولة حضارة عريقة تمتدّإلى قرون بعيدة في عمق التاريخ إلى دولة عريقة في تاريخها الإمبراطوري، كأنّما الأمر قد يكون صراعاً بين الإمبراطورية الصينية والإمبراطورية الرومانية في العصر الحالي، وهو الأمر اللامنطقي وغير المعقول أن تُدار معركة حالية بأدوات وثقافة وتفكير إمبراطوري ماضوي.
في هذا الصراع الوبائي وسرعة انتشاره كان في الجانب الآخر من العالم من يقف متفرجاً ويفكّر باستثمار انخفاض أسعار النفط في تحقيق تكامل احتياطه النفطي المخزون في باطن الأرض، وكأنّ الحرب الجرثومية لاتعنيه، وقد لاتصل إليه وهو التفكير الصناعي الرأسمالي الذي يزيح المشاعر الإنسانية لصالح دوران الآلة وتحقيق معدلات الانتاج العالية، واتّضحت الصورة في أنّ هذا الوباء يفتك بالبشرية ويزيح أنظمة، ويفكّك حضارات، ويهزّ قناعات، ويغيّر كثيراً من معتقدات البشر.
فقد تغيّرت المنظومة الفكرية، وانهارت المنظومة الاقتصادية والصحية للدول الكبرى والصغرى أمام هجوم فايروس غير مرئي، وهو الأمر الذي هزّ المنظومة القيمية في المجتمعات المختلفة فكريا واجتماعيا، وأنتج ملامح منظومة جديدة قد لايمكن إدراكها في خضمّ أزمة المواجهة مع الوباء، لكنّ سماتها بانت لدى البشر من خلال الإحساس بهذا الخطر الذي قد يكون أحد نتائج التطور العلمي والتكنولوجي على حساب التطور الإنساني، إذ أصبحت الآلة هي المحورالذي يدير محركات الكون وخارج الكون، وتراجعت القيمة الإنسانية إلى مراحل متأخرة، إلّا أن مايحدث اليوم قد يعيد إلى الإنسان قيمته الحضارية إذا ما أحسنّا التفكير في قابل الأيام واستثمرنا مخرجات الاقتصاد والتكنولوجيا لخدمة الإنسان، لا أن نُبقي هذا الإنسان يعيش في دوّامة الخطابات الحماسية التي تؤجّج المشاعر، ولاتؤدّي إلى نتائج إيجابية، وإنّما تقودهم حطباً لحروب طاحنة تديم السلطات الاستبدادية، إذ إنّ مانعيشه اليوم يدفعنا إلى مغادرة التكلّس العقلي والمعرفي والجمود على اجترار الماضي الذي لم يعد صالحاً، والتفكير بروح وعقل منفتح على المستجدات الكونية، ومغادرة كلّ مايكرّس التحديد أو التأطير الفكري وعزل الشعوب عن بعضها، وإنّما انفتاحها على بعض، والتفكير بروح الشعب الكوني لصالح المستقبل المشترك والمصير الواحد في مواجهة التحديات المستقبلية التي قد تعقب هذا الهجوم الوبائي إلى هجومات أكثر خطورة، وإلى حروب كواكب مع كواكب أخرى.