صباح محسن
« لذكرى الفريد إتش منديز ، من كتيبة السلاح الملكي ، الذين قالوا لنا القصص «
هذا ما اشتغل عليه المخرج سام منديز ثيمةً لعمله السينمي ، حكاية نقلها له جده ، عن واقعة جرت وقائعها في ابريل من عام 1917 اي قبل نهاية الحرب العالمية الاولى بوقت قصير ، عن تكليف القيادة العسكرية الانگليزية لأحد الجنود بإيصال برقية من الفرقة الثامنة الى القوات المتقدمة وابلاغها ايقاف هجومها المرتقب على القوات الالمانية التي انسحبت تكتيكيا عن مواقعها لتمويه القطعات الانكليزية ، ومن ثم الانقضاض عليها ، وكانت القيادة الانكليزية تعلم ما يخطط له الالمان ، ولأن المراسلات عبر الهاتف مراقبة ، يتم اعتماد العنصر البشري لايصال مضمون البرقية للقوات التي تقبع خلف متاريس العدو ، بمسافة قريبة ، ويتم اختيار الجندي بليك لايصال تلك البرقية ولاهميتها ، ليختار بليك جندي آخر يخدم بوحدته نفسها ليذهبا للقائد ليسلمهما البرقية ، وللجندي بليك اخ برتبة ضابط ينتسب لتلك القوة التي تنوي شن الهجوم وهي كتيبة بريطانية بواقع 1600 جندي .
لتبدأ رحلة بليك وزميله ، عبر ملاجئ متعرجة وملتوية وطويلة ، وامكنة مهجورة ومدمرة ، وغير مأهولة ومساحات مفتوحة على فضاءات تنفتح على بساتين واشجار بعضها اخضر وآخريات يابسة جرداء ، لتتكرر مشاهد الاشجار والمزارع الخضر وتلك الجرداء ، واحداث كثيرة ومتعبة .
اشتغل المخرج سام منديز والذي كتب القصة واشترك بكتابة السيناريو مع السيناريست كريستي ويلسن كيرنر ، بأسلوب المشهد المتصل ، من دون تقطيع ، مونتاج ، كما هي العادة في اغلب الافلام الملحمية ، بأدارة مدير التصوير المتمكن روجر ديكنز ، ليبرع في اصطياد زوايا تصوير غاية في الجمال واللمسة الفنية عالية المستوى . وقد تمكن المخرج وبوجود كادر فائق المهنية ، ويمتلك وعي جمالي في بناء المشهد ورسم معالمه بحسب زمن الحدث ، وخلفياته المتضمنة جميع ادوات العمل من ملابس واكسسوارات واسلحة وبناء ملاجئ قريبة لتلك التي صممت في الحرب الاولى مع التأكيد على نوع السلاح المستخدم من طائرات ومدفعية وقصف ، واختيار نماذج قريبة في سحنتها من تلك النماذج الانسانية التي اشتركت في الحرب عبر اختيار ذكي وموحي لابطال يتشبهون بأولئك الجنود وزمن وقائعهم .
أفاض المخرج سام منديز في بناء المشهد المفتوح والمتصل ، من دون الاعتماد على التقطيع الذي يدفع بالاستخدام الحتمي لأغلب المشاهد في مثل هذه الافلام الضخمة والتي تنحو بالاتجاه الملحمي ، ليبرع ، في تنفيذ وبناء مشاهد غير متسلسلة ، لإيصال زمن الحدث بلقطات متصلة دون توقف ، وكأننا امام مشهد واحد لا ينتهي الا بإيصال تلك البرقية ، مع كامل حصول المنغصات التي تعترض سبيل الجندي سكوفيلد والذي يتحمل عبء ايصال المعلومة للقوات المحصورة بين كماشة القوات الالمانية ، وبعد ان يُقتل رفيقة الجندي بليك على يد جندي طيار الماني ، لتأخذ الاحداث مسارات اخرى مليئة بالشد والمفاجآت .
هناك مشاهد عديدة رسمها المخرج منديز بمستوى فني غاية في الروعة منها سقوط الطائرة الالمانية بعد معركة غير متكافئة بين طيارتيّن انكليزيّتين وأخرى المانية وسقوط الطائرة الالمانية على سهول مفتوحة ومن ثم تظهر متجهة وهي تحترق صوب الجنديين بليك وسكوفيلد وهما يحتميان بكوخ مهجور وارتطامها بمقدمة الكوخ ولتجثم عليهما وامام ذهولهما يتجهان لتخليص الطيار الالماني من الاحتراق داخل هيكلها الذي امتلأ بالنار ، وحين نجاته يقوم بطعن الجندي بليك بسكين بعد ان كان بليك يوصي رفيقة سكوفيلد بجلب الماء له !
ومشهد مذهل ومعد بشكل فني بارع حين يصل الجندي سكوفيلد لخطوط الكتيبة الانكليزية وهي تتأهب للهجوم ، ووسط التحضيرات للهجوم واعلان ساعة الصفر لانطلاق الكتيبة لاحتلال مواقع الالمان المتروكة بخطة اعدت لهذا الغرض ، تبدء معاناة سكوفيلد بكيفية الوصول للقائد مكنزي وابلاغه مضمون البرقية ، لكنه اصطدم بلحظة الهجوم والذي بدأ بطلائع فجر اليوم الذي تم تحديد ايقافه من قبل القيادة المركزية الانكليزبة ، لكنه يصر على ايصال المعلومة عبر خطوط الكتيبة المليئة بالجنود وهم يهمون بالهجوم وعدم سماع صوته وتوسلاته بأن يستدل على موقع القائد ، مما يدفعه للصعود خارج الملجأ الذي يتحصن به جنود الكتيبة ليبدأ الركض باتجاه موقع القائد وبشكل هستيري ، وفي اثناء ذلك يبدأ هجوم الكتيبة تحت وابل من قصف مدفعية العدو ليصطدم بأكثر من جندي من المهاجمين ويقع لاكثر من مرة على ارض المعركة المشتعلة ، وهذا المشهد تحديدا تم البدء بتصويرة ، وعلى ما اعتقد لمرة واحدة ، كون المجاميع المشاركة بالهجوم كثيرة ومن الصعب اعادة بنائه بسبب اخطاء قد تقع للبطل ومنها اصطدامه الواقعي ببعض من الجنود المهاجمين وبشكل مقنع للغاية .
الفيلم يعتمد ، وبحسب الاهداء الاخير له عن قصص سُربت من جنود اشتركوا بالمعركة تلك ، ومنهم جد المخرج ، وهو نوع من الوفاء لأولئك الجنود الذي قدموا حياتهم في سبيل قضية وطنهم.
وضع الموسيقى توماس نيومان والتي كانت متماهية مع احداث الفيلم ، وتقربت لماهية وآلام وعناد الجندي سكوفيلد ، وفاضت بأنغامها وانتقالاتها عبر استخدامات تلوينية للوقائع .
الفيلم بحث آخر ومستمر عن ويلات الحرب ، وبشاعتها .
هناك تشابه بين وقائع فيلم الجندي ايريان لسبيلبرج وهذا الفيلم من حيث الثيمة ، فكلاهما يبحثان في موضوعة الانقاذ لاحد ما او مجموعة .
قام بأداء البطولة الممثل الصاعد الشاب جورج مكاي والذي قدم اداءً مذهلا ، ودين تشارلز وريتشارد مادن وبيندكت كاميرياش واندرو سكوت وكولين فيرث ومارك سترونج .
مكان الحدث تاريخيا شمال فرنسا على خط هيندبيرغ خلال عملية البيرس .
مرة اخرى أؤكد على محاولة المخرج للتفرد في بناء مشهد مفتوح ومتصل ، وهي محاولة فذة منه لتقديم تحفة فنية آخاذة ، وهذا لايعني تخليه مع كادره المساعد عن الاستنجاد بالتكنلوجيا الحديثة التي غزت السينما ، لكنه أجاد ببناء فيلم رصين من دون خلل .
هناك تنظيرات لبعض الباحثين والدارسين في علوم السينما كانوا فد نادوا بأهمية بناء المشاهد الطويلة والمتصلة من دون تقطيع بخبرات المونتاج وكان الفرنسي اندري بازان اول من نظر وبحث في اساليب المشهد المتصل منذ اربعينيات القرن المنصرم…
الفيلم انتاج بريطاني اميركي.