الهروب من نفق مضيء
قصة هروب سجناء سياسيين من سجن الحلة المركزي عام 1967
تمكن الكاتب جاسم المطير في كتابه الهروب من جسر الحلة، أن يقدم للقراء حدثاً إنسانياً رائعاً بروح نضالية شبابية عالية الهمة ومسؤولة في آن واحد , حدث بدأ في منتصف عام 1967 وانتهى مع نهايات العام تقريباً.
كتاب المطير هذا ضم مذكراته عن ذلك الحدث البعيد وما رافقته من أحداث.
وفي هذا الكتاب ترك المطير للأخرين ممن جايلوا ذلك الوقت او عاشوا الحادثة، فسحة للحوار حين أكد على أن من يتحدث عن مسألة معينة سيراها من زاويته الخاصة , وبالتالي ترك المجال لمن يريد أن يدلي بدلوه في هذا الصدد , سواء بالإضافة أو إبداء الملاحظة أو التعديل. غير انه توخى في من يريد التحدث او الكتابة في هذا الأمر أن يكون ملماً به أو يسعى للإلمام به ومراجعة من عايش الحدث منذ البداية بهدف تجميع موزائيك اللوحة كاملة قبل البدء بالكتابة عنها. هكذا طلب جاسم ممن كتب عن الحدث حينذاك , وهكذا يفترض أن يكون.
ومن هنا تبادر ” الصباح الجديد ” الى نشر سلسلة حلقات من هذا الكتاب الشيق.
الحلقة 8
جاسم المطير
فكرة حفر النفق التي أثارتها عندنا التجربة الشيوعية البرازيلية استرعت انتباهنا إلى مجموعة من الأفكار المتعلقة بحفر نفق تحت ارض سجن الحلة وقد قادتنا تلك الأفكار شيئا فشيئا إلى مستويات دراسات تطبيقية لكل الاحتمالات ولكل الإمكانيات ولكل المواصفات المتاحة ، وقد نوقشت باستمرار في كل لقاء بين كل اثنين من مجموعة الأربعة ( مظفر النواب ونصيف الحجاج وحافظ رسن وجاسم المطير ) جميع الفروق الشاسعة أو المتقاربة بين تخطيطات عديدة لحفر النفق واتجاهاته . وقد استطاعت المناقشات أن تزيل الكثير من التفاوت في التخطيط ، ثم تركز الفصل الأخير على البحث في إمكانية تنفيذ الأفكار الخيالية في جغرافية النفق : هل نبدأ بمؤشر الحفر في نقطة ما في شمال السجن أم في نقطة ما في جنوب السجن ..؟
كانت النقطة المحددة في شمال السجن هي موقع ” الصيدلية ” .
أما النقطة المحددة في جنوب السجن فكانت هي موقع ” المطبخ ” العام .
هل من المطبخ أم من صيدلية السجن ..؟ أيهما الأسهل وأيهما القابل للتطبيق وأيهما الأبعد عن تفكير إدارة السجن .
ولكي نتوصل إلى القرار الحاسم لا بد من توفير مجموعة من البيانات الجغرافية المحيطة بالموقعين . بمعنى أن هناك حاجة إلى جواب على سؤال : إلى أين يؤدي النفق إذا حفر من داخل الصيدلية ..؟ والى أين يؤدي النفق إذا تم حفره من جهة المطبخ .
أخبرني حافظ رسن أنه كلف من قبل حسين سلطان بالبت بهذا الأمر ، كما تقرر تكليفه اختيار المنفذين .
بهذا التكليف صار حافظ رسن يتحرك بنشاط يومي واسع وبعناية ، من دون العودة إلى موافقة من حسين سلطان لدراسة وضع السجن والسجناء بتسلسل ومع مجموعة من الرفاق خصوصا مع مظفر النواب وحسين ياسين في تبادل متواصل لجميع الآراء المطروحة بدراسة الأشياء والأفكار الأساسية واستبعاد الآراء والأفكار التي تشكل أجزاء ليست مهمة في عملية الهرب
بقصد تلافي مختلف أنواع الأخطار التي يمكن أن تواجه العملية في مراحلها المتعددة
بدأت تظهر على حركة حافظ رسن داخل السجن مظاهر الشعور بضرورة ” التحرك السري ” لضمان المحافظة على سرية قرار الهرب وسرية الاستعداد له.
كان القاووش رقم (4 ) الذي اسكنه في السجن القديم بجانب قاووش (3) الذي يسكنه نصيف الحجاج وكنت أرى في كل يوم تردد حافظ رسن على نصيف الحجاج عدة مرات باليوم الواحد على قاووش رقم 3 كما كنت ألاحظ لقاءات مظفر وحافظ أيضا وهما يتمشيان في الساحة الصغيرة بالسجن القديم .
هذه التحركات لدراسة وتنفيذ القدرات الفعلية لانجاز المهمة كانت تشير بوضوح إلى انتقال الوظيفة الحزبية القيادية والمركزية ، المتعلقة بعملية الهرب من حسين سلطان إلى نصيف الحجاج ، كما أصبحت قوة الحركة اليومية للمجموعة معتمدة على حركية حافظ رسن وأصبحت دراسة الأفكار المعدة للتنفيذ متركزة بين مظفر النواب وحافظ رسن وكانت الأهداف العملية المؤشرة في نفق الهرب يجري تقديرها وتصميمها في لقاءات مظفر النواب وجاسم المطير أو بين الاثنين ونصيف الحجاج .
المطلوب غدا ، يوم الخميس ، أن أذهب إلى مستشفى الحلة القريب من السجن لإجراء الفحوصات الطبية على كليتي .
ذهبت في الساعة التاسعة صباحا إلى المستشفى مشيا على الأقدام . كان حظي سعيدا ذلك اليوم إذ كان السيد ( س ) هو السجان الذي صحبني مع زميل له . في الحقيقة لم أكن أعرف أن السجان الأول هو صديق السجناء (س) إلا بعد عودتي حين أخبرني حافظ رسن أن هذا الشخص هو ” عين ” السجناء في إدارة السجن . أول شيء فعلته هو أنني أعطيت ُ هدية لكل واحد من السجانين علبة سيكاير من ماركة روثمان فكان سرورهما كبيرا . وقد استطعت من خلال الذهاب إلى المستشفى الحصول على نقاط مهمة ضرورية للدراسة .
أول مكسب وفره لي الحظ هو طيبة الدكتور الذي عاينني واصدر أمرا بإجراء الكشف الشعاعي يوم الخميس التالي . كان الطبيب متعاطفا تماما معي مثلما هو مع كل سجين آخر كما عرفتُ ذلك لاحقا ً . وكذلك لاحظت تعاطفا كبيرا من عدد من المرضى الذين كانوا ينظرون إلى يديّ المقيدتين بنوع من الألم وهم يجلسون قبالتي أو بجانبي ويطلقون أو يهمسون بكلمات الود والمحبة والتعبير عن التعاطف مع قضية السجناء وكانت النسوة يرفعن أياديهن إلى السماء بالدعاء بأماني الحرية لكل السجناء العراقيين ، كما كان البعض يؤكد أن يوم الحرية بالعفو العام صار قريبا .
النقطة الثانية هي حصولي ومعرفتي بعض المعلومات الضرورية عن كراج سيارات الحلة – نجف الملاصق للسجن . وقد جمعت ُمعلومات وافية عن الكراج من بعض المرضى الذين جلست بجانبهم في المستشفى وعرفتُ أيضا بعد العودة من المستشفى أن الزاوية البعيدة في الكراج ملاصقة تماما لخط مستقيم ــ مفترض ــ مع الصيدلية إذا ما تم الحفر منها .
النقطة الثالثة التي شخصتها أن النفق المفترض حفره من المطبخ ينتهي إما بزقاق ضيق تحت إحدى الروابي الجنوبية لحراس السجن ، وإما أن ينتهي بطريق تكثر فيها سيارات السجن وموظفيه وهو أيضا يقع أسفل رابية الحراسة .
بعد عودتي إلى السجن قدمت ملاحظاتي إلى حافظ رسن التي نقلها فورا إلى نصيف الحجاج وإلى مظفر النواب ، كما أرسلتُ رسالة بريدية إلى زوجتي بضرورة الحضور إلى مستشفى الحلة القريب من السجن في الساعة التاسعة من يوم الخميس القادم مع والدتي لأمور هامة .
لم أنم ليلتي .. أرق شديد سيطر علي وأنا أفكر بالوسيلة الأفضل لاتخاذ القرار الأفضل في مسألة تحديد مكان الهرب واتجاهاته . لقد تعزز لدى مظفر النواب وحافظ رسن ونصيف الحجاج الرأي القائل بأفضلية العمل من ” الصيدلية ” فهو أكثر أمانا من غيره ففي داخل الصيدلية يمكن ضمان عملية الحفر بعيدا عن أعين إدارة السجن وعن عيون بعض وكلائها السريين داخل السجن . هذا الاختيار هو الذي اشغلني وارقني وحرمني من النوم .
من يدري ربما الآخرون يعانون من نفس حالة الأرق ومنشغلين بالتفكير نفسه ، بالموضوع نفسه . وكنت أظن أن الاعتماد على النفس يزداد عندنا جميعا خاصة بعد أن أوكل حسين سلطان موضوع الهرب ــ حزبيا وعمليا ــ إلى حافظ رسن معلنا له تخليه عن هذه المهمة لحين مجيء رأي الحزب وقراره .
كان أمام السجناء الذين يخططون للهرب إما ” التردد ” عن العمل أو التباطؤ فيه وإما الانغمار فيه بلا توقف وبلا تردد .
كان وضع السجناء العراقيين محط التفكير على مدار الساعة في الصحافة العالمية التقدمية فما لبث ضغط الرأي العام العالمي يتواصل على الحكومة في كل يوم ويغدو ” التردد ” القادم إلينا من خارج السجن هو الصوت الذي نسمعه حول قضية الهرب في كل لقاءات المواجهات الفردية والجماعية وفي الرسائل البريدية أيضا .
على أية حال فنحن الآن منشغلون داخل السجن بموضوع ” كيف نهرب ..” بعد أن حسمنا التصميم على ” الهرب ” حسما نهائيا لا رجعة فيه . هذا الحسم واضح في تحركات مظفر النواب وتفكيره وخطواته ، كما هو واضح في تفاعل وتداخل مواقف وخطوات حافظ رسن أيضا . لقد كان السؤال الوحيد الذي نبحث عن جواب له ، هو : من أين نحفر نفق الهرب .. هل من الصيدلية أم من المطبخ ..؟
ثقتي بآراء مظفر النواب وبطريقة تفكيره وباتزان قراراته جعلتني أميل لموقفه وأنتسب إليه ومفاده الاستفادة من ” خصوصية الصيدلية ” والانطلاق منها نحو الحرية ونحو الالتحاق بصفوف الحزب الشيوعي . شفيعي الوحيد هو اعتقادي أن تفكير مظفر بهذا التشخيص ومبرراته هو الأجدى وهو الأوعى لأنه قائم على ظروف مدروسة جيدا من قبله فقد كان ، دائما ، معنيا بالتأمل المحض بكل جوانب ايجابيات العوامل المساعدة التي يمكن التعامل معها في جغرافية الصيدلية وسياق العمل في داخلها ، بسرية تامة ، وبحذر تام ، بعيدا عن كل عين راصدة . كنت أشاهده يواصل تجواله في ساحة السجن ، ليلا ونهارا ، محاولا رسم أو رؤية لوحة الهرب وكأنه يرسم مع نفسه هيكلا لقصيدة ٍ ما يريد مفاجئة السجناء بها . أدركتُ في تلك الأيام أن هناك تناظرا في قلق مظفر النواب ، في حالتي العمل من اجل اختراق جدران السجن ونيل الحرية وكذلك في حالة توتره وتجلياته عندما يشرع في البحث عن مباغتة شعرية جديدة ، فهو في العادة يغوص بالتفكير الهادئ قبل اتخاذ أي قرار .