هروبنا

الهروب من نفق مضيء

قصة هروب سجناء سياسيين من سجن الحلة المركزي عام 1967

تمكن الكاتب جاسم المطير في كتابه الهروب من جسر الحلة، أن يقدم للقراء حدثاً إنسانياً رائعاً بروح نضالية شبابية عالية الهمة ومسؤولة في آن واحد , حدث بدأ في منتصف عام 1967 وانتهى مع نهايات العام تقريباً.
كتاب المطير هذا ضم مذكراته عن ذلك الحدث البعيد وما رافقته من أحداث.
وفي هذا الكتاب ترك المطير للأخرين ممن جايلوا ذلك الوقت او عاشوا الحادثة، فسحة للحوار حين أكد على أن من يتحدث عن مسألة معينة سيراها من زاويته الخاصة , وبالتالي ترك المجال لمن يريد أن يدلي بدلوه في هذا الصدد , سواء بالإضافة أو إبداء الملاحظة أو التعديل. غير انه توخى في من يريد التحدث او الكتابة في هذا الأمر أن يكون ملماً به أو يسعى للإلمام به ومراجعة من عايش الحدث منذ البداية بهدف تجميع موزائيك اللوحة كاملة قبل البدء بالكتابة عنها. هكذا طلب جاسم ممن كتب عن الحدث حينذاك , وهكذا يفترض أن يكون.
ومن هنا تبادر ” الصباح الجديد ” الى نشر سلسلة حلقات من هذا الكتاب الشيق.

جاسم المطير

الحلقة 5

شاءت المصادفة بسجن الحلة أن أتعرف برفيق جديد بعد أيام قليلة من وصولي منقولا من نقرة السلمان . كان هذا الرفيق شابا نشيطا متحمسا لتعلم اللغة الانكليزية هو عبد الأمير صادق ( مقيم حاليا في استكهولم ) لذلك كانت أغلب قراءاته معتمدة على المطبوعات باللغة الانكليزية . كان يقوم بتكليف عائلته من أجل إدخال الصحف والمجلات الانكليزية والأميركية التي كانت تباع في مكتبات بغداد آنذاك . في تلك الأيام كانت الفعالية اليومية الثقافية الرئيسية لهذا الشاب هي قراءة تلك الصحف والمجلات الأجنبية بقصد التعلم من لغتها وبما يساعد تقوية هذه اللغة لديه من خلال الترجمة إلى اللغة العربية أيضا . كان منسجما جدا مع هذه الهواية ولديه رغبة صاخبة في تفضيل قراءة الأخبار والمقالات المثيرة خصوصا .
جاءني عبد الأمير صادق ذات يوم حاملا معه مجلة تايم الأميركية . كان مسرورا جدا وهو يؤشر بيده على إحدى مقالات المجلة وفيها تفصيل عن عملية هرب سجين شيوعي قيادي في احد سجون البرازيل بمساعدة هائلة من صاحب دكان قريب من السجن تم حفر نفق طوله 60 مترا من داخل الزنزانة إلى الدكان وقد نجح في الهرب بوضح النهار نتيجة استخدام الدكان كنقطة انطلاق في الحفر . وكما هو معروف أن عملية الحفر من خارج السجن إلى داخله توفر ضمانا آمنا أكثر بكثير من ضمان عملية الحفر من داخل السجن إلى خارجه .
استوقفني الخبر والتحقيق الصحفي . وقد رجوت الرفيق عبد الأمير صادق بترجمته كاملا لإطلاع الآخرين عليه . وفعلا كان الموضوع مترجما بالعربية تحت يدي ، في اليوم التالي ، بعد أن أنجز عبد الأمير الترجمة الكاملة للمقال فأخذته إلى مسئولي الحزبي بالسجن ، نصيف الحجاج ، المقيم حاليا ببغداد ــ أطال الله في عمره ــ و الذي سر سرورا بالغا له ، فجميع التفاصيل الواردة في المقالة كانت مثيرة ومحفزة وتشكل مادة أولية قد تنبع منها فكرة مماثلة في تنفيذ عملية هرب جماعية من سجن الحلة ، لأن موقع سجن الحلة كان بوسط المدينة محاطا بالبيوت والأسواق التي تنتشر فيها دكاكين قريبة من السجن مما يوفر احتمالات أن يكون منطلق حفر النفق من خارج السجن وليس من داخله . ، أي أن هذا السجن هو بالعكس تماما من سجن نقرة السلمان الذي يقع في وسط الصحراء الجنوبية معزولا عن العالم كله .
هذا يعني إن النصوص التي توضع لخطط الهرب من نقرة السلمان ، مثلا ، ليست هي نفسها النصوص التي قد توضع لغايات الهرب من الحلة ولا هي متقاربة أصلا ولذلك فقد كانت عملية هرب سليم إسماعيل وكاظم فرهود وآخرين من سجن نقرة السلمان هي عملية فريدة النوع يصعب تكرارها في أي سجن عراقي آخر لأنها خضعت لحالة خاصة ولظروف خاصة ولأدوات خاصة جعلت من كفاءة وشجاعة المنقولين عبر الصحراء يزودون أنفسهم بتفاصيل خطة هربهم بتتابع حركة المتغيرات المحيطة بهم عبر الصحراء ، دقيقة بعد دقيقة ، وهم على ظهر سيارة شرطة مسلحة تنقلهم من النقرة إلى مركز شرطة السماوة تمهيدا لنقلهم إلى بغداد لمحاكمتهم . نجحت تلك الخطة إلى حد كبير بسبب الخيار المفتوح للهاربين الذين استغلوا ظروف وأوضاع نقلهم . أما سجناء الحلة فقد تبلور عندهم رأي مختلف ، أرادوا تنصيبه في خطتهم على ضوء فضيلة تجربة برازيلية وليس على ضوء تجربة عراقية في محاولة البحث عن وسيلة مناسبة للهرب .
انتقل مقال عبد الأمير صادق إلى يد مظفر النواب وقد عبر عن ضرورة التفكير بوسيلة قد تطبق وفقا لواقع حال وجودنا في سجن الحلة .
وعند اطلاع حافظ رسن على محتوى المقالة سر سرورا بالغا وقد قفزت في نفس اللحظة في ذهنه أفكار تطبيقية مباشرة عن الاستفادة من هذه الخطة وقد قال أمامي إلى نصيف الحجاج بصراحة أقول : اتركوا لي فرصة دراسة إمكانيات تحقيق هذه التجربة خلال المواجهة القادمة مع عائلتي . بينما كان مظفر النواب في الوقت ذاته متحمسا جدا للتفكير بخطة هرب نضعها وفقا لظروفنا الخاصة . لا أدري هل كان رأيه قائما على احتمالات صعوبة الحصول على موقع ، بيت أو دكان قريبا من السجن ، ليكون منطلقا للحفر ..؟ لكن حافظ رسن كان الأكثر حماسة للتجربة البرازيلية مركزا حديثه معي خلال يومين من المناقشة على ضرورة الدراسة السريعة للإمكانيات السجنية في سجننا ، خاصة وأن هناك الكثير من البيوت والدكاكين قريبة من سجن الحلة مما يسهل تقليد العملية البرازيلية لو أسعفنا الحظ . في مساء اليوم نفسه ذهبنا ، أنا ونصيف الحجاج وحافظ رسن ، إلى غرفة حسين سلطان ، في السجن الجديد ، لغرض تقديم مقالة ” التجربة البرازيلية ” كي يطلع عليها ومناقشة أمكانية تطبيقها في ظروف سجن الحلة ، بالرغم من وجود خلافات فكرية حادة بيننا نحن الثلاثة من جهة وحسين سلطان من جهة أخرى بسبب ذيول ونتائج سياسة خط آب1964 المنتشر داخل صفوف السجناء في تلك الفترة .
كان حسين سلطان قد أخلى غرفته بالموعد المحدد لهذا اللقاء . قرأ المقالة وعقب بالقول : رائع .. عظيم . سندرس الإمكانيات وسأحاول أخذ موافقة اللجنة المركزية على التنفيذ سريعا .
ونحن نغادر غرفته أكد مرة ثانية على كلمات : سأحاول الحصول على موافقة اللجنة المركزية على التنفيذ السريع لخطة هربنا .
لم يكن الطريق سهلا أمام الاقتناع بفكرة الهرب التي كان مرحبا بها ” داخل ” السجن حين اقتربت من التنفيذ لكنها خضعت في ” خارج ” السجن إلى تفسيرات واسعة بالعلاقة مع الأوضاع السياسية السائدة في البلد . فالتأكيد الفعال للعملية وتنفيذها هو من اختصاص قيادة الحزب .. هكذا كان حسين سلطان يؤكد في كل نقاش وانه لا يتفق مع تصميم رفاقه في السجن على المباشرة الفورية بتنفيذ الهرب رغم انه يؤكد أيضا في كل لقاء انه يحترم رأيهم . وحين استدعاني بواسطة صاحب الحميري ، لتناول وجبة فطور في يوم من الأيام مع حسين سلطان وعلى مائدته الكريمة ، كما اخبرني صاحب نفسه قبل ليلة من الموعد المحدد للمشورة عن قضية ثقافية بعد الإفطار .
ذهبت إليه وفي بالي أن هناك قضية أخرى حتما . ولا بد أن أشير هنا أن علاقتي مع حسين سلطان كانت تتميز بالحب والاحترام المتبادلين رغم وجود اختلافات ناتجة عن سياسة خط آب لكن بنفس الوقت كانت علاقتي ليست على ما يرام مع صاحب الحميري الذي عرفته بمناقشات حامية يعبر فيها عن أفكاره خلالها بنوع حاد من العصبية والتعلق بخط آب .
جلسنا في إحدى زوايا الغرفة ( القاووش ) مرحبا بي وكان الإفطار جاهزا وحارا ( باقلاء بالدهن الحر مع البيض المقلي ) ومؤكدا تقديره لي ولنشاطي في سجن نقرة السلمان وأنه يريد مني المساهمة بالعمل الصحفي داخل سجن الحلة أو بالعمل ضمن اللجنة الثقافية .
اعتذرت عن إمكانية المساهمة بهذا النشاط وأعلمته بأنني متعب وأريد بعض الراحة . كنت صادقاً معه فأنا متعب ومريض فعلا ، ولكني مع ذلك كنت نشيطا في الكتابة . وقد أبدى تشجيعه لي للاستمرار بالكتابة في صحف بغداد إذ صرت اكتب مقالة سياسية مطولة كل أسبوع في جريدة النصر التي تصدر ببغداد ، كما كنتُ أكتب مقالا آخر تحت عنوان ” رسالة من الداخل ” في الصفحة الأخيرة من جريدة اتحاد العمال التي يرأس تحريرها هاشم علي محسن . وكان يعقب عليها محمد الجزائري الذي كان يعيش في بغداد بعد إطلاق سراحه من النقرة مجيبا على مقالتي بخاطرة مماثلة تحت عنوان ” رسالة من الخارج ” على الصفحة الأخيرة من الجريدة نفسها.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة