متابعة الصباح الجديد:
صدرت حديثاً عن منشورات المتوسط – إيطاليا، مجموعة قصصية جديدة للكاتب السوري إسلام أبو شكير، بعنوان «أرملة وحيد القرن». حيثُ يتَّضحُ أكثر الخطّ الإبداعي المُكثّف للكاتب في مجال الكتابة القصصية، بعد خمسِ مجموعاتٍ قصصية وروايتيْن، ليجدَ القارئُ نفسَهُ أمامَ تجربةٍ تتَّكِئ على الاشتغال والتجريب الواعييْن، انطلاقاً من حساسية عالية تجاهَ «القصة» كصنفٍ أدبي، تقِلُّ فيه الأقلام الجادة. وتعملُ قلَّة من الكتّاب على الحفرِ عميقاً في آلياتِ تطويرهِ أسلوباً ولغةً.
وما تنبني عليه المجموعة القصصية الجديدة لإسلام أبو شكير، لا يخرجُ عن هذا الاشتغال، بأسلوبٍ سرديٍّ مُحكم، دون شوائب، مع اعتمادٍ واضحٍ على التنويع في تقنيات السَّرد، بدءاً ببناء الأحداث وصولاً إلى نهاية القصة، لكن ذلك، لا يعتمدُ طريقةً جافَّة ومُسطَّرة في البناء، بقدر ما يصلُ إلى القارئ بأسلوبٍ يتماهى والأفكار التي يريدُ الكاتب إيصالها، بطرقٍ متعدِّدة وبمعانٍ إيحائيةٍ مختلفة.
هناكَ انحيازٌ كبيرٌ للغرائبية والتجريد في قصص أبو شكير، مع امتزاجِ وقائع العالم الحقيقي، بسوداويةٍ ليست ادِّعاءً مجانياً في الكتابةِ، إنَّما هي صفة ملازمة للوجود الإنساني في الحياة اليومية، تلك الحياة التي لا تخلو من انهياراتٍ كبرى وجنون عظيم وخرابٍ طال كلَّ شيء. نحنُ هنا بصددِ كوكتيل من المشاعر، بين الآلام الراسخة والأحلام التي تصارعُ من أجلِ البقاء، يؤجِّلها الكاتبُ أحياناً ويُعدمها أحياناً أخرى، لكنَّه، بطريقةٍ ما، يكتبُ مصيرنا العبَثي المشترك، حتَّى وإن تباعدت الجغرافيات وحاولنا التَّحايُل على لعبةِ الزمن الزئبقي المنفلت من بين أيدينا، كزوجِ الأرملة الذي عاد بعد موتهِ، وحيدَ قرنٍ حزين، ليموت مرَّة ثانية. الكتاب جاء في 152 صفحة من القطع الوسط، وضمَّ 54 قصة قصيرة.
من الكتاب:
تعتقد صديقتي أنّ الكتابة عن شيءٍ ما( خصوصاً إذا ما تكرّر الأمر) قد تؤدّي بها لا إلى أن تكتسب صفاته وحسب، بل ربّما استيقظتْ ذات يوم لتجد نفسها وقد أصبحتْ هذا الشيء نفسه.. نفسه تماماً وكما هو.
تقول إنّها عايشت هذه التجربة أكثر من مرّة. كتبت قصّةً عن سائق قطار، فلاحظت بعد أيّامٍ وهي تخرج من المنزل إلى الشارع أنّها كانت تنفث من فمها دخاناً أبيض. قلت لها إنّ هذا الدخان هو مجرّد بخارٍ بتأثير برودة الجوّ، لكنّها رفضت هذا التفسير الساذج، مؤكّدةً أنّها كانت ستقبل به لولا أنّ عينيها، في الليل خصوصاً، كانتا تبرقان كأضواء القطار. معها حقّ. لاحظتُ ذلك بالفعل. يضاف إلى هذا أنّها كانت طيلة الوقت تشعر بارتفاع حرارة جسدها إلى حدّ الغليان.
- لا.. ليست حمّى.. أنا متأكّدة من ذلك..
بقيت صديقتي قطاراً فترةً من الوقت، ثمّ تحوّلت إلى صبّارةٍ بعد قصّةٍ كتبتْها متأثّرةً بفيلمٍ أمريكيٍّ قديمٍ عن رعاة البقر. لم تعد تشرب الماء إلّا نادراً، كما أنّ الزغب الناعم حول فرجها أصبح قاسياً وخشناً كالشوك..
ثمّ استيقظت ذات صباح فوجدت نفسها سمكة. كان ذلك بعد أن انتهت من كتابة قصّةٍ عن قبلةٍ أولى لفتاةٍ في العشرين من عمرها. سُئِلتْ عن العلاقة بن القبلة والسمكة، فأجابت: - لا أعرف بالضبط.. ربّما لأنّ فم الفتاة في القصّة كان يشبه فم السمكة. أو لأنّ الفتاة حلمت في الليلة نفسها بأنّها عالقةٌ في شبكة.
أمّا الأعراض التي تؤكّد أنّها أصبحت سمكةً فكانت كثيرةً كما قالت. لم أصدّق شيئاً ممّا ذكرتْه باستثناء لزوجة جسدها التي بدت لي غير مألوفة. جلدٌ ناعمٌ وصقيل. وكان يلتمع كما لو أنّها خارجةٌ لتوّها من البحر.