ديفيد ماكوفسكي
انتهت الانتخابات التي شهدتها إسرائيل في 17 أيلول/سبتمبر من دون فوز أي كتلة بالمقاعد الواحدة والستين الضرورية للحصول على أغلبية في البرلمان («الكنيست») المؤلف من 120 مقعداً. فقد أسفرت النتيجة الحالية عن 57 مقعداً لكتلة تمثل يسار-الوسط (بزعامة حزب «أزرق أبيض» الذي حصل على 33 مقعداً) و55 مقعداً للكتلة اليمينية (بزعامة حزب «الليكود» الذي حصل على 31 مقعداً). ونتيجةً لذلك، قد تستغرق عملية تشكيل الائتلاف أسابيع طويلة تكون حصيلتها المرجحة (وإن غير المؤكدة) اتفاقاً لتقاسم السلطة. ويبدو أن عصر السيطرة الحصرية لرئيس الوزراء الأطول خدمة في البلاد، بنيامين نتنياهو، قد انتهى، لكن من السابق لأوانه القول ما إذا كان زعيم قائمة «أزرق-أبيض» بيني غانتس هو الذي سيخلفه.
لماذا خسر نتنياهو؟
تشير النتائج إلى أن حزب نتنياهو خسر ثمانية مقاعد بين انتخابات نيسان/أبريل والانتخابات المعادة في الأسبوع المنصرم، إذا أخذ المرء في الحسبان إضافة حزب وزير المالية موشيه كحلون. واستناداً إلى «القناة 13» الإسرائيلية، يعزو رئيس حزب «الليكود» هذه النتيجة إلى المدن النائية، التي عادة ما تكون معاقل لحزبه، لكن سكانها لم يشاركوا بنفس النسبة التي كان يذهبون فيها إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات السابقة. وقال الشيء نفسه عن مستوطنات الضفة الغربية. إن إلقاء نظرة على أنماط التصويت في المدن الرئيسة يُظهر تراجعاً جزئياً بل تراكمياً لحزب الليكود.
والواقع أن نتنياهو كان يدرك مشكلة انخفاض الإقبال في نسبة التصويت يوم الانتخابات، حين لجأ إلى خدمة البث المباشر على «فيس بوك» لحث المشاهدين بشدة على الذهاب إلى صناديق الاقتراع. حتى أنه توجّه إلى محطة الحافلات الرئيسة في القدس حاملاً مكبّراً للصوت من أجل الترويج لحملته الانتخابية، مستخدماً الخطاب التخويفي الذي يشتهر به ليحذّر الناس من شتّى الكوارث التي ستصيب إسرائيل إذا ما خسر في الانتخابات. ومع ذلك، فمثله مثل الصبي الذي أطلق استغاثة كاذبة، استعمل هذا التكتيك مرات عديدة في الماضي، إلا أن الناخبين تجاهلوا مناشداته.
وعلى الرغم من أن هناك حاجة إلى المزيد من المعطيات لشرح هذا الرضا الظاهر الذي يبديه مؤيدو «الليكود» الرئيسيون في اليمين (الناخبون من الطوائف الشرقية) والمستوطنون، إلّا أن موقفهم قد يكون نابعاً من شعورهم بأن منافسه الرئيسي لن يمثل تحولاً جذرياً لإسرائيل. بعبارة أخرى، بدا أن نتنياهو يصوِّر الانتخابات على أنها معركة أيديولوجية، لكن الجمهور لم ير غانتس، رئيس أركان الجيش السابق، كالمقابل الإسرائيلي لليساري البريطاني جيرمي كوربين.
ويبدو أن نتنياهو قد فقد بعض الناخبين اليمينيين المعتدلين. وكان ذلك واضحاً من خلال ما أعلنه بيني بيغن، نجل الزعيم البارز مناحيم بيغن، الذي قال قبل الانتخابات أنه لن يصوت لنتنياهو. ومثله مثل والده، يرتبط بيني بسيادة القانون، ويشاطره القلق المنتشر على نطاق واسع من أن نتنياهو قد تخلّى عن نهجه الحذر وقد يقود ديموقراطية فخورة إلى الانحراف عن مسارها بشكل خطير.
غالباً ما بدا نتنياهو مستعداً لإلغاء المبادئ الدستورية من أجل الحفاظ على بقائه السياسي والقانوني. وقد استاء الكثير من الإسرائيليين حين تعهّد مساعدوه باستخدام البرلمان كوسيلةً لتحصينه من المحاكمة؛ وعندما شوّه سمعة وكالات إنفاذ القانون التي تحقق في تهم الفساد الموجهة إليه؛ وحين ادّعى دون أي دليل أن الانتخابات كانت مزورة؛ أو عندما انتقل إلى تنفيذ هجوم آخر على غزة دون اتّباع الإجراءات الحكومية المناسبة، مما دفع بالمدعي العام أفيشاي ماندلبليت إلى التدخل في الأسبوع الذي سبق الانتخابات. وقد فوجئ الكثيرون عندما طالب بسن تشريع طارئ لنصب الكاميرات في محطات الاقتراع في المناطق ذات الغالبية العربية (وقد صوَت البرلمان ضد هذا الإجراء، وانتهى الأمر بأثر رجعي لهذا التكتيك عندما زاد عدد الناخبين العرب). باختصار، يبدو أن الدعم الشعبي للمؤسسات الديمقراطية الإسرائيلية يفوق الدعم لنتنياهو.
ساعتان موقوتتان
بعد الانتخابات، قال كلٌّ من نتنياهو وغانتس إنهما يفضلان تقاسم السلطة عبر تشكيل حكومة وحدة وطنية. وكان هذا الخيار أيضاً محور الحملة الانتخابية لأفيغدور ليبرمان، وزير الدفاع السابق الذي فاز حزبه «إسرائيل بيتنا» بثمانية مقاعد، مما منحه توازناً بين قوى كتلتَي غانتس ونتنياهو. وكرّر ليبرمان منذ ذلك الحين أن حكومة الوحدة الوطنية هي السبيل الوحيد للمضي قدماً، وإذا لم تتبلور أي حكومة مماثلة، فسيكون هو في موقع ممتاز يخوّله تحديد المسؤول عن المأزق، والطرف الذي يستحق تأييد حزبه. ومع ذلك، حتى دور صانع الملوك معرّض للتعقيدات بالنظر إلى نتائج الانتخابات. على سبيل المثال، لو كان ليبرمان قد تأرجح نحو يسار الوسط، لكان سيظل هو وغانتس بحاجة إلى حزب متطرف للانضمام إليهما من أجل الوصول بصورة مطمئنة إلى 61 مقعداً -وهو افتراض صعب لأن هذه الأحزاب تميل إلى اليمين. أما استقطاب الأحزاب العربية فليس خياراً في أوراق تشكيل الحكومة لأن أعضاء الكنيست العرب يرفضون جميعاً الانضمام إلى الائتلافات البرلمانية، خشية أن يكونوا مسؤولين عن الموافقة على العمليات العسكرية ضد إخوانهم العرب.
وأيا كان الحال، هناك سابقة لقيام حكومة وحدة وطنية. وقد حدث المثال الجوهري لذلك في الفترة 1984-1988، عندما حث الرئيس حاييم هرتسوغ الحزبين الرئيسين في ذلك الحين على كسر الجمود الانتخابي والتعاون من أجل مصلحة البلاد. ووافقا الحزبان على ذلك، مما سمح لقادتهما بتناوب منصب رئيس الوزراء في منتصف الفترة.
لكن تشكيل حكومة وحدة وطنية قد يكون صعباً بسبب الخلاف بين غانتس ونتنياهو بشأن تركيبتها. فقد كان نتنياهو قد أعرب قبل الانتخابات عن تفضيله تشكيل حكومة يمينية يمكنها تحصينه بشكل أفضل من المحاكمة، في حين دعا غانتس إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تستثني نتنياهو إلى حين انقشاع السحابة القانونية التي تحيط به. ومن المرجّح أن تعزّز النتائج القوية التي حصل عليها غانتس في الانتخابات عزمه على استبعاد نتنياهو.
اجراء جولة ثالثة
وفي الوقت نفسه، كان نتنياهو يجادل بأن كتلته اليمينية ستوفر نواةً أكثر تماسكاً لحكومة الوحدة الوطنية. لكن هذا الأمر يبدو بعيد المنال إذ من المرجح أن يدعو حزب «أزرق -أبيض» إلى فرض بعض القيود في الأقل على الاستيطان، وهو ما سيعارضه حزب المستوطنين في كتلة نتنياهو. والسيناريو المحتمل الآخر هو إجراء جولة ثالثة من الانتخابات، والتي يقول مساعدو نتنياهو إنهم لن يستبعدوها. ومع ذلك، سبق وأن وصف مكتب الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين بأنه لا يمكن تصوّر مثل هذا الخيار، ويدرك «الليكود» جيداً أن نتنياهو لا يحظى بفرصة كبيرة لتحقيق أي نتيجة أفضل في انتخابات أخرى بعد أن خسر مقاعد بين الجولتين الأولى والثانية.
ونظراً إلى جميع هذه الديناميكيات، يدرك غانتس على الأرجح أن الوقت يعمل لصالحه. وفي الأيام القليلة المقبلة سيبدأ الرئيس ريفلين مشاورات مع جميع الكتل لتحديد من يحصل على الفرصة الأولى لتشكيل حكومة: غانتس أو نتنياهو. وبغض النظر عن الشخص الذي سيتم اختياره، ستحدَّد له مهلة شهر لإنجاز هذه المهمة، مع تمديد ممكن لمدة أسبوعين إذا لزم الأمر.
وتصبّ نقطة زمنية أخرى لصالح غانتس. ففي الثاني من تشرين الأول/أكتوبر، سيواجه نتنياهو جلسة الاستماع التي طال انتظارها بشأن ثلاث تهم فساد، ومن المتوقّع أن يُصدر ماندلبليت لوائح اتهام بعد ذلك بوقت قصير. وسوف تستقطب هذه الجلسة اهتماماً كبيراً من الرأي العام، وبما أنه من غير المرجح إنجاز مفاوضات تشكيل الائتلاف بحلول ذلك التاريخ، فمن المحتمل أن يكون غانتس قد قدَر أن المزيد من الإسرائيليين سيبدأون بالتشكيك عما إذا كان ينبغي السماح لسياسي مُدان برئاسة الحكومة.
وسوف تؤثر لوائح الاتهام أيضاً على أي اتفاق لتناوب رئاسة الوزراء. ففي هذا السيناريو، سيرغب نتنياهو في أن يكون رئيس وزراء أولاً ومن ثم مواصلة العمل في الحكومة في منصب آخر. غير أنه بموجب القانون، لا يحق إلا لرئيس الوزراء، وليس للوزير العادي، الاستمرار بشغل منصبه خلال فترة اتهامه. ومن المرجح أن يرفض غانتس هذا الطلب على أي حال، لأن حزبه وكتلته فازا بعدد أكبر من المقاعد.
ويؤمن فصيل غانتس على الأرجح أيضاً أن هذه الساعات الموقوتة ستحث قيادي آخر من حزب «الليكود»على الترشح كزعيم جديد للحزب. ومع ذلك، لا يظهر نتنياهو أي علامات على الاستقالة طواعية، ولـ «الليكود» سجل حافل بالولاء الاستثنائي لقادته، حيث اختار أربعة منهم فقط منذ عام 1948. وهذا «الحمض النووي» يجعل أعضاء الحزب عموماً يتجنبون أي خطوة تتعلق بإبعاد نتنياهو؛ على سبيل المثال، خلال المحادثات الأخيرة مع كاتب هذا المقال، قال أربعة وزراء في حكومة «الليكود» أن المضي قدما وتقديم مثل هذا الاقتراح سيكون انتحاراً سياسياً. بالإضافة إلى ذلك، يتفادى نتنياهو رعاية خلف له، لذلك لا يوجد بديل طبيعي متاح في الوقت الحاضر.
ترامب واسرائيل
في أعقاب الانتخابات، اتخذ الرئيس ترامب خطوة لافتة من خلال إبعاد نفسه علناً عن نتنياهو، المرشح الذي دعمه بقوة. ولكن ترامب مشهور بنفوره من الناس الذين يخسرون. وعندما سُئل عما إذا كان قد تحدث مع نتنياهو بعد الانتخابات، قال إنه لم يفعل ذلك، وأشار بوضوح إلى أن العلاقة الأمريكية هي «مع إسرائيل». وهذا التصريح يضعف نتنياهو بصورة كبيرة، وهو الذي قام بتسويق علاقاته الوثيقة مع الرئيس الأميركي بوصفها «نقطة بيع» رئيسة طوال حملة الانتخابات.
وتمتد تداعيات هذا التحوّل إلى ما وراء الصداقة الحميمة الشخصية. ففي الخطاب الأول الذي أدلى به نتنياهو بعد الانتخابات، أعلن أن البيت الأبيض على وشك طرح خطة السلام الإسرائيلية-الفلسطينية التي طال انتظارها. ومن المفترض أنه يأمل أن يسمح له غانتس بالمشاركة في حكومة وحدة وطنية باسم السلام، وحتى بتقاسم السلطة. ولكن طرح الخطة قد يشجع غانتس بدلاً من ذلك على اعتبار نفسه الشخص الوحيد الذي يجب أن يتعامل مع قضايا الحرب والسلام وليس نتنياهو. وفي النهاية، قد تواصل إدارة ترامب إرجاء طرح الخطة إلى حين اتّضاح الديناميكيات السياسية الإسرائيلية، خاصة في ظل القضايا الأكثر إلحاحاً التي تحدث في الخليج العربي.
وبغض النظر عن خطوات إدارة ترامب، من شأن احتمال تشكيل حكومة وحدة وطنية تجمع كافة الأطياف أن يعزّز دعم الحزبيْن الأمريكيين لإسرائيل. فمواقف بعض الديمقراطيين من الحكومة الإسرائيلية كانت غير إيجابية نوعاً ما منذ بعض الوقت، ويعود ذلك جزئياً إلى علاقة نتنياهو الوثيقة مع ترامب، وإلى تمكين الكتل المستوطنة والفصائل الدينية المتشددة في السنوات الأخيرة، فضلاً عن خطاب نتنياهو المثير للانقسام أمام الكونغرس في عام 2015. ومع ذلك، لا يزال نتنياهو يأمل في أن تنتشله حنكته من هذا المأزق السياسي العميق وتمكّنه من مواصلة مسيرته السياسية.
ديفيد ماكوفسكي زميل «زيغلر» المميز في معهد واشنطن، والمؤلف المشارك مع دينس روس للكتاب، «كن قوياً وذو شجاعة جيدة: كيف عمل قادة إسرائيل الأكثر أهمية على تحديد مصيرها»
معهد واشنطن