مايكل آيزنشتات
لا شكّ في أنّ الضربة التي وجهتها إيران لمنشآت نفط سعودية رئيسة في 14 أيلول/سبتمبر باستعمالها طائرات من دون طيار وصواريخ موجهة تُعدّ الأكثر جرأةً ضمن سلسلة من عمليات «المنطقة الرمادية» غير المتناسقة التي تنفذها إيران منذ أيار/مايو، والتي تهدف جميعها إلى مواجهة استراتيجية «الضغط الأقصى» التي تعتمدها واشنطن. ومن المتوقّع أن تستمر هذه العمليات طالما تركّز الولايات المتحدة على وقف صادرات النفط الإيرانية تماماً؛ ولهذا السبب، من المرجح أن يؤدي قرار الرئيس ترامب بمضاعفة العقوبات في أعقاب الضربة الإيرانية إلى تفاقم الأمور. وفي الوقت نفسه، إذا لم تفرض واشنطن ثمناً عسكرياً على طهران بسبب هذه الأفعال، فسيواصل النظام الإيراني تصعيد الأمور، مع تداعيات سلبية على الاقتصاد الأميركي، والمصداقية الأميركية، والاستقرار الإقليمي. لذلك فإن فهم إستراتيجية المنطقة الرمادية لطهران، وتعلُّم كيفية العمل في المنطقة الرمادية ضد إيران، أمران ضروريان إذا أريد تجنب المزيد من التصعيد.
أنشطة إيران في المنطقة الرمادية
غالباً ما تعمل دول مثل إيران وروسيا والصين في المنطقة الرمادية التي تكمن ما بين الحرب والسلام من أجل تحدي الوضع الراهن وإدارة المخاطر في الوقت نفسه. فهذه الدول تحيط أهدافها بالضبابية (من خلال ممارسة أفعال تدريجية) والإسناد (من خلال استغلال أنشطة وكيلة أو سرية قابلة للإنكار)، مما يخلق حالة من عدم اليقين حول كيفية الرد. ويُعزى جزئياً سبب انتشار صراعات المنطقة الرمادية في جميع أنحاء العالم، إلى التزام الولايات المتحدة بمفهومٍ ثنائي للحرب والسلام. وإذ تتجذر هذه الازدواجية في التقاليد الثقافية والقانونية الغربية، فهي تتيح لجهات فاعلة مثل إيران العمل بينما تكون محصّنةً نسبياً من العقاب «ما بين حالتي الحرب والسلام».
وتجد استراتيجية المنطقة الرمادية التي تعتمدها طهران بعض جذورها في الصدمة التي خلفتها الحرب بين العراق وإيران. فمنذ ذلك الحين، بذل النظام الإيراني جهوداً كبيرة لتفادي الحروب التقليدية لأنه يدرك مدى الخسائر البشرية والتكاليف الباهظة التي يمكن أن تنتج عنها. على سبيل المثال، حتى في أوج الحرب السورية، قامت إيران بنشر أقل من واحد في المائة من قواتها البرية في ساحة المعركة وحوّلت الكثير من المخاطر والأعباء على «الفيلق الأجنبي» الشيعي التابع لها من أجل تقليل خسائرها.
ولهذا السبب تجس إيران النبض وتختبر الحدود، ثم تتراجع إذا ما واجهت رداً حازماً -وإن كان تراجعها مؤقتاً فقط. وتستعمل وسائل غير مباشرة (على سبيل المثال، إلحاق الضرر بالسفن بواسطة الألغام) والوكلاء الأجانب مثل «حزب الله» لإحداث مواجهة وإمكانية النكران مع تجنّب المشاركة الحاسمة. وتركّز طهران على الرد النسبي من أجل تعزيز فرص التنبؤ بردود الفعل. كما أنها تضبط وتيرة عملياتها للتحكّم في وتيرتها وسيرها لكيلا تخرج الأحداث عن سيطرتها. وغالباً ما تطيل فترة النزاعات لاستغلال حالات التفاوت في الاندفاع التي تمنحها ميزة في الصراعات الطويلة. إن اعتماد طهران على الأساليب غير الفتاكة في الأنشطة الأخيرة للمنطقة الرمادية هو دليل إضافي على أن إدارة المخاطر لا تزال تشكل أولوية بالنسبة لها. وما يزال التصعيد ممكناً، لكن الحرب الشاملة تبدو غير مرجحة إلى حد كبير، إلا إذا اختارت الولايات المتحدة اتباع هذا المسار.
استراتيجية أميركية في المنطقة الرمادية
يمثل اعتماد واشنطن استراتيجية منطقة رمادية خاصة بها أفضل فرصة لها لتجنب أي تصعيد ملحوظ بينما تكسب الوقت لإنجاح حملة الضغط التي تمارسها. على صناع السياسة الأمريكيين التخلي عن الفكرة بأن لدى طهران درجة تحمّل عالية المخاطر والتكاليف، وأنّ مسار الانتقال من اشتباك محلي إلى حرب إقليمية هو مسار قصير. (على الرغم من أن ذلك قد يتغيّر إذا دفعت واشنطن إيران أكثر إلى الزاوية مع فرضها عقوبات نفطية مكثفة، والتي يَنظر إليها النظام على أنها تهديد محتمل لقبضته على السلطة). كما يتعين على واشنطن التخلي عن بعض عادات التفكير والعمل المتأصلة، التي هي محور الطريقة الأمريكية للحرب ولكنها غير ملائمة للنجاح في المنطقة الرمادية، مثل تفضيل القوة الساحقة والعمل السريع والحاسم.
فكيف ستبدو استراتيجية منطقة رمادية أميركية؟ تكتسي العناصر التالية أهمية خاصة:
تعزيز المصداقية وقوة الردع. خلال أربعين عاماً من تأريخ الجمهورية الإسلامية، تعلّمت طهران من تجربتها بأنه بإمكانها تنفيذ أنشطة منطقة رمادية (والتي تشمل القيام بعمليات فتاكة) ضد مصالح أميركية من دون المجازفة بالتعرض لرد عسكري أميركي. وإذ تفتقر واشنطن إلى المصداقية، فقد عجزت مراراً عن ردع النظام الإيراني. لذلك فإن تعزيز قوة الردع الأميركية أمر أساسي من أجل تعطيل حملة الضغوط المضادة التي تنتهجها طهران. ويعني ذلك الردّ على مجسات إيران واستفزازاتها في المنطقة من أجل إظهار أن واشنطن أصبحت الآن أكثر تقبلاً للمخاطر مما كانت عليه في الماضي. وهذا يعني أيضاً عدم عبور الخطوط الحمراء لطهران، لأن الجهود المكثفة لخفض صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر ستحفز على الأرجح ردود فعل أكثر قوة.
اللجوء إلى الأعمال السرية/التي يمكن إنكارها. تعمل سياسة الإنكار في كلا الاتجاهين. على الولايات المتحدة الردّ بشكل عيني على الأفعال الإيرانية، باستعمالها ردود انتقامية غير قاتلة من أجل تكبيد طهران تكاليف مادية. ولا ينبغي أن تنفذ أي عمليات فتاكة ما لم تُسفَك دماء أميركية. إضافة إلى الفوائد الجوهرية للإجراءات السرية، من غير المرجح أن تؤديَ هذه الإجراءات إلى إزعاج الأميركيين وحلفائهم الذين يخشون أن تسعى الإدارة الأميركية إلى الدخول في حرب مع إيران. وكما أوضحت الضربة على بقيق بأن منشآت النفط السعودية ضعيفة، فإن صناعة النفط الخاصة بإيران معرضة للتخريب والهجمات الإلكترونية والضربات الدقيقة التي قد تهدد تدفق صادراتها الحالية التي تبلغ عدة مئات الآلاف من البراميل يومياً. وتمر حوالي 90 في المائة من هذه الصادرات عبر محطة نفط واحدة هي جزيرة خرج. أما الحرائق والحوادث فليست غير شائعة في المنشآت البتروكيماوية حتى في ظل الظروف الاعتيادية، وبالتالي فإن عملية سرية جيدة التنفيذ في جزيرة خرج قد يتم إنكارها بنحو معقول وتكون مكلفة للغاية لإيران على حد سواء. وهذا الاحتمال يجب أن يمنح النظام الإيراني وقفة تفكير.
الموازنة بين ضبط النفس وردود الفعل المتناسبة. يمكن لضبط النفس المفرط أن يزيد من مخاطر التصعيد عبر فتح المجال لتحديات جديدة. وفي المقابل، يمكن أن يؤدي التخلي عن ضبط النفس واللجوء إلى التصعيد إلى زيادة مخاطر لا داعي لها أمام الولايات المتحدة متسبباً في الوقت نفسه معارضة محلية وخارجية لأي خطوات إضافية. ولتجنب جميع هذه السيناريوهات، ينبغي على واشنطن الردّ بشكل مناسب على الأفعال الإيرانية، تماماً كما تفعل طهران حين تواجه تهديدات، مع ضمان استهداف الأصول القيّمة حقاً بالنسبة للنظام.
زيادة عدم اليقين، وفرض التكاليف. لدى الرد على التحديات، غالباً ما تتصرف واشنطن بشكل متوقع، مما يسهّل على المعارضين تقييم المخاطر والحدّ من تكاليف اختبار العزم الأميركي. وبدلاً من ذلك، يجب أن تردّ الولايات المتحدة بشكل غير متوقّع من خلال عدم الاكتفاء باستهداف الأصول المتورّطة في استفزاز معيّن. وعليها أن تضمن أن تكون التداعيات على طهران أسوأ مما تكون قد تسببت به هذه الأخيرة. إن القيام بذلك قد يحث النظام الإيراني على التصرف بحذر أكبر.
تغيير هيكليات التحفيز. دائماً ما يكون النظام العدائي الذي يكافح من أجل بقائه أكثر استعداداً للمخاطرة من إدارة أميركية تسعى فقط إلى تحقيق مصالحها القومية. وبالتالي، من الأهمية بمكان تجنب حشر طهران في الزاوية. فقد يعني ذلك تحمّل درجة من التساهل في عقوبات النفط الأميركية، مما يقلل من حوافز إيران للتورط في أنشطة مزعزعة للاستقرار. ومن شأن انتهاج سياسة عقوبات مماثلة أن تكمّل الجهود الرامية إلى إدارة التصعيد بدلاً من أن تقوّضها. إن قرار الرئيس الأمريكي تشديد العقوبات في أعقاب الضربة على السعودية من المرجّح أن يعقّد هذه المهمة.
التمديد وليس التصعيد. في منافسات المنطقة الرمادية، غالباً ما يتمّ تحقيق الميّزة من خلال إحراز مكاسب تدريجية وتراكمية بدلاً من اتخاذ خطوات سريعة وحاسمة. لذلك ينبغي على واشنطن مقاومة الرغبة في التصعيد من أجل تحقيق نتائج سريعة. ومع ذلك، قد تتعارض هذه المبادئ مع رغبة الرئيس ترامب في صياغة اتفاق جديد مع إيران قبل نهاية فترة ولايته. ونتيجةً لذلك، قد لا يكون من الممكن مواءمة مقاربته لفرض ضغوط كبيرة للتحفيز على إجراء مفاوضات مع رغبته في تجنب التصعيد. وفي الواقع، قد تؤدي مضاعفة حملة الضغط إلى تصعيد الموقف وإحباط أي احتمال للمفاوضات.
توسيع خيارات المنطقة الرمادية. من أجل الحدّ بصورة أكثر من احتمالات التصعيد، على الولايات المتحدة تطوير أساليب عملياتية جديدة باستخدامها الحرب الإلكترونية، والأسلحة السيبرانية الهجومية، والمركبات المسيّرة عن بعد. كما عليها النظر في إيجابيات توسيع نطاق عملياتها الجغرافية وسلبياتها.
العمل على جبهات متعددة. تتجنب طهران عموماً التصعيد على جبهتين أو أكثر في آن واحد؛ فعندما تتعرض لضغوط على جبهة واحدة، تميل إلى التراجع على جبهة أخرى. وتبعاً لذلك، يجب على الولايات المتحدة العمل مع شركاء إقليميين مثل إسرائيل -التي تضرب بالفعل أهدافاً إيرانية في الخارج -والسعودية للضغط على طهران من اتجاهات متعددة.
يمكن أن تساعد الاستراتيجية الفعالة لمنطقة رمادية أميركية في تقييد حملة الضغوط المضادة التي تنتهجها إيران، وتقييد قدرتها على الانخراط في الأنشطة الإقليمية المزعزعة للاستقرار، وإثنائها عن محاولة الاختراق النووي البطيء في نهاية المطاف. وفي المقابل، قد يؤدي العجز عن اعتماد مثل هذه الاستراتيجية إلى زيادة جرأة طهران على جميع هذه الجبهات. والأهم من ذلك، إذا لم تعمل الولايات المتحدة بنجاح في المنطقة الرمادية ضد قوة من الدرجة الثالثة مثل إيران، فإن ذلك سيثير تساؤلات حول قدرتها على مواجهة الجهات الفاعلة الأكثر قدرة مثل روسيا والصين في السنوات القادمة.
مايكل آيزنشتات زميل «كاهن» ومدير برنامج الدراسات العسكرية والأمنية في معهد واشنطن.