زها حسن
كانت الولايات المتحدة مُذعنة، إن لم تكن متواطئة، مع الجهود الإسرائيلية الرامية إلى ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية.
بثّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الروح مجدداً بوعد كان أطلقه في حملته الانتخابية بشأن ضمّ كل المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة وغور الأردن، إذا ما فاز حزب الليكود في الانتخابات البرلمانية المقررة في 17 أيلول/سبتمبر الحالي.
قال: «بعون الله، سنمُد السيادة اليهودية إلى كل المستوطنات كجزء من أرض إسرائيل التوراتية، وكجزء من دولة إسرائيل». كان استعمال نتنياهو لتعبير «السيادة اليهودية» بدلاً من «السيادة الإسرائيلية وإشارته إلى «أرض إسرائيل» أمراً مقصوداً ومتعمّدا. إذ هو يحاول أن يُطبّع الفكرة بأن كل اليهود الذين يعيشون في أي مكان في العالم يحظون بجنسية عليا تفوق بكثير الانتماء المحلي الفلسطيني على كلا جانبي «الخط الأخضر « للعام 1967 (الذي يرسم الحدود المُعترف بها دولياً بين إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة).
وهكذا، يبدو أن الفكرة الزائفة حول أن المواطنين اليهود في دول أخرى يدينون بالولاء لـ «أرض إسرائيل» لا تُعد إشكالية بالنسبة إلى نتنياهو، طالما أنها تخدم عملية إعادة انتخابه. أما الأقل حصافة فهي المبررات الأمنية التي تستخدمها إسرائيل لمواصلة السيطرة على الأراضي الفلسطينية المحتلة، على الرغم من أن نتنياهو كان أشار إلى هذا التبرير أيضاً في سياق قرار إسرائيل الاحتفاظ بغور الأردن. بدلاً من ذلك، هو يفضّل الاعتماد على الفهم الضيّق للكتاب المقدس (التوراة) بهدف حمل الأحزاب القومية-الدينية على الاصطفاف وراءه ووراء الليكود.
بيد أن جهود نتنياهو للفوز بالانتخابات على هذا النحو، ليست فارغة من المضامين. فملاحظاته تتّسق في الواقع مع خطوة الكنيست في تموز/يوليو 2018 التي أقّر فيها القانون الأساسي: إسرائيل كدولة-أمة للشعب اليهودي. هذا التشريع يُضفي سلطة دستورية على الفكرة بأن لليهود حقاً حصرياً في ممارسة تقرير المصير في المنطقة الجغرافية الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط، أو في أي بقعة أخرى تُمدّد إسرائيل إليها سيادتها.
والحال ان ثمة حافزين قويين لدى أي حكومة إسرائيلية جديدة لضم 60 في المئة من الضفة الغربية التي يسيطر عليها الاستيطان الإسرائيلي، وهما وجود إدارة ترامب في البيت الأبيض، واستباق الانتخابات الأميركية العام 2020. إذ أن أي إدارة أميركية جديدة قد لا تكون مستعدة للإذعان إلى مثل هذه الخروقات للقانون الدولي. حتى الآن، أثبت فريق عمل الرئيس دونالد ترامب أنه خاضع، إن لم يكن متواطئاً، مع الخطط الإسرائيلية لمواصلة السيطرة على الجزء الأكبر من الأراضي المحتلة. وهذا كان أمراً ساطع الوضوح بقرار إدارة ترامب نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، وباعترافه بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان المحتلة.
من غير المحتمل أن يؤدي الإعلان المفاجئ الأسبوع الماضي عن استقالة المبعوث الخاص لترامب في الشرق الأوسط، جيسون غرينبلات، إلى تغيير مسار السياسة الأميركية. فإذا ما ستكون ثمة أي ذكرى لهذا الأخير، فهي الخطاب الذي أدلى به أمام مجلس الأمن الدولي، وأشار فيه إلى أن القانون الدولي و»مئات قرارات الأمم المتحدة» بشأن السلام الفلسطيني-الإسرائيلي، ليست أكثر من «قرع طبول متواصل لخطب طنّانة سقيمة ومُملّة».
أما فيما يتعلق بقضية القدس الشائكة، فقد كان موقف غرينبلات منسجماً مع موقف نتنياهو عندما شدّد على أنه «ما من إجماع دولي أو تفسير للقانون الدولي سيقنع الولايات المتحدة أو إسرائيل بأن المدينة التي عاش فيها اليهود وعبدوا فيها منذ ما يقرب من 3000 عام، وكانت عاصمة الدولة اليهودية منذ 70 عاماً، ليست – اليوم وإلى الأبد – عاصمة إسرائيل».
إن تصوّرات كلٍّ من سفير الولايات المتحدة في إسرائيل ديفيد فريدمان، الذي يتمتع بنفوذ واسع في السياسة الأميركية حيال الشرق الأوسط، ووزير الخارجية مايك بومبيو، لأولويات واشنطن السياسية تجاه فلسطين وإسرائيل تستند إلى التوراة. ففي الربيع الماضي، وفي خطوة شكّلت قطيعة مع عقود من الممارسة الدبلوماسية، كان بومبيو أول وزير للخارجية يقوم بزيارة رسمية إلى حائط البراق برفقة نتنياهو، مُبدياً بذلك اعترافاً ضمنياً بالسيادة الإسرائيلية على القدس الشرقية العربية. وقد صرّح بومبيو في مقابلة أجراها خلال زيارته مع «شبكة البث المسيحية» أن «مهامه» في وزارة الخارجية «استندت إلى فهمه للدين». وردّاً على سؤال عمّا إذا كان الله أرسل ترامب لحماية الشعب اليهودي من إيران، على غرار الملكة أستير في التوراة، قال بومبيو إنه يعتقد أن هذا «ممكن».
إن إدراج المعتقدات اليهودية-المسيحية في صُلب السياسة الأميركية الرسمية بشأن الشرق الأوسط يهدّد آفاق السلام. إذ لم يكن غافلاً على الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين الذين شاهدوا عبر الأقمار الصناعية إعلان ترامب العام الماضي عزمه على نقل السفارة الأميركية إلى القدس، أن هذا التصريح صدر قبل أسابيع معدودة من عيد الميلاد.
على الرغم من الإشكالية المتمثّلة في تغلغل العامل الديني في تضاعيف الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، تبدو السلطة الفلسطينية مهتمة أكثر في كيفية الرد على قطع التمويل الأميركي وقرار إسرائيل تجميد العوائد الضريبية المستحقة لها. يُضاف إلى ذلك ان محادثات السلام التي ترعاها الولايات المتحدة توقفت لتُستبدل باستراتيجيات فلسطينية ترمي إلى فصل الضفة الغربية عن إسرائيل، وإنهاء اعتماد الفلسطينيين على الإسرائيليين ووقف العمل بالبروتوكول الاقتصادي لإطار أوسلو.
في تموز/يوليو، أعلن رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس أن السلطة تنوي تعليق جميع الاتفاقات مع إسرائيل. كانت لجنة ضمّت قادة شتى الفصائل السياسية التأمت للبحث في المضاعفات القانونية والاقتصادية والسياسية لعملية الانفصال عن إسرائيل. وتتمثّل إحدى التدابير الاقتصادية التي اتُخذت أساساً هذا العام في وضع حدّ لعملية نقل المرضى الفلسطينيين إلى المستشفيات الإسرائيلية، الأمر الذي يبدو أن له تأثيراً سلبياً على أداء بعض من هذه المستشفيات، التي تحصل على 100 مليون دولار تقريباً كمستحقات في السنة من السلطة الفلسطينية.
علاوةً على ذلك، تمّ تنفيذ مبادرات أخرى، تشمل إنهاء اعتراف السلطة الفلسطينية بالإدارة المدنية الإسرائيلية في أجزاء من الضفة الغربية المعروفة بالمنطقة «ج»، التي تمتلك إسرائيل بموجب اتفاقية أوسلو الثانية كامل السيطرة الأمنية والمدنية عليها، إضافةً إلى التعامل مع كل أجزاء الضفة الغربية المحتلة على أنها أراضٍ خاضعة إلى السيادة الفلسطينية. أما الأثر العملي لهذه المبادرات فمازال غير واضح المعالم، على ضوء عجز السلطة الفلسطينية عن منع عمليات الهدم الإسرائيلية في وادي الحمص، وهو حي فلسطيني في القدس كان يفترض أن يكون خاضعاً إلى السلطة المدنية والأمنية الفلسطينية بموجب اتفاقية أوسلو.
وبينما تعجز إدارة ترامب عن رؤية مخاطر تحوّل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني إلى صراع ديني، أو توسيع إسرائيل نطاق سيادتها على ملايين الفلسطينيين المحرومين من حقوقهم، سيبقى الأمر متروكاً للإدارة الأميركية المقبلة كي تحاول إيجاد حلّ من شأنه إصلاح الأضرار المترتبة على هذا الوضع. وإن أمكننا التحدّث عن عامل إيجابي في الوضع الراهن، فسيكمن الوضوح المطلق في الخيار الأخلاقي: إذ سيتعيّن على الولايات المتحدة إما قبول الاحتلال بوصفه وسيلة قانونية متاحة أمام الدول لتوسيع حدودها، أو مناصرة الشرعية الدولية وسيادة القانون.
في الختام، نأمل ألا يندرج الحلّ بالنسبة إلى الإدارة المقبلة في إحدى التفسيرات التوراتية.
مركز كارنيغي للشرق الاوسط