النص الفلمي والاشتغال السينمائي
كاظم مرشد السلوم
يعد النص احد المرتكزات الأساسية التي يقوم عليها الفيلم السينمائي، إذ لا يمكن أن تصور فيلماً متماسكاً من دون نص مؤثر يوظفه صانع الفيلم من خلال أدارته السينمائية للإيحاء بالدلالات المراد إيصالها للمتلقي.
وتزخر الحياة الاجتماعية بأنواع مختلفة من النصوص وفي مجالات مختلفة كالأدب والسياسة والفلسفة والإعلام والقانون.
ولكل واحد منها دور مميز في تحريك التفاعل الاجتماعي كما ان له دوراً واضحاً ومميزاً في تنظيم جانب ما من أنشطة الحياة الاجتماعية.
والنص ليس مجرد تدوين للحفظ والتسجيل ولكنه يمثل سلطة توجيه وتقنين وتشريع، فالنص الأدبي يؤثر في أجيال الأدباء والشبان، ويكون احد مصادر الإلهام في التشريعات، والنصوص التاريخية تعبر عن روح الأمة، وتكشف عن مسارها في التاريخ، وكذلك النصوص القانونية هي أساس الدولة ودعامة مؤسساتها، والنصوص الدينية سلطة تصدر عن الوصي وطاعة الأنبياء، تعطي شرعية للسلطان ضد معارضيه كما تشرع للثورة ضد السلطان.
وقد انتبهت السينما لأهمية النص واستطاع صانعها الأفلام التعامل مع النص بطريقة تمنحه أهمية أخرى غير كونه نص مكتوب، كونها تحوله إلى نص مرئي متحرك بعيداً عن الخيال الذي تركه في ذهن القارئ أو المستمع للنص أذ أن النص هنا يتعامل مع متلق يرى ويسمع وكذلك يقرأ لأن الفيلم صار يعتمد بينه تركيبة ما زالت تقوم على استدراج الفنون الأخرى داخل بنيتها، وهو نقل للواقع الذي يشتمل على هذه الفنون .
ويوجه الفيلم إلى المتلقي بوصفه أي الفلم نصا قائماً بذاته، وهو نص يمثل وحده خطاب من حيث هو مفعل ، فعلي تشغيل مركب من رموز اللغة السينمائية ،اذن النص الفلمي يتوفر على خطاب ذي قصدية فاعلة تؤثر على المشاهد ,ولا يظهر النص الفيلمي إلا عبر تصويره وعرضه ، حيث يعد العرض هو الوجود الفعلي والحقيقي له . محتوياً مجموعة من الصور والكلمات والأصوات تتصل فيما بينها ضمن سياق، وهذه الصور والكلمات والأصوات يمكن أن تكون قضية أو حكاية.
يتكون النص الفلمي من عناصر الصورة، حركة الكاميرا، الديكور، الإضاءة، وكذلك عناصر الصوت مثل الحوار والموسيقى والمؤثرات السمعية، التي تتضافر وتتكون ضمن منظومة توصل للمتلقي شيئا ما من خلال النص الفيلمي.
ويعتمد فهم وتفسير هذا الفيلم (النص) من قبل المتلقي على درجة تلقيه واستيعابه للعلاقات التي طرحها الفيلم وإحالتها إلى دلالات مقصودة ويعتمد هذا الاستيعاب والتلقي على خبرة المشاهد وثقافته وقيمه وعادات مجتمعه، وبهذا يعد النص الفيلمي كصوره هو في نهاية المطاف مجال الشفرات العلامات – المنتجة للرسائل التي يتلقاها المتفرج من صانع الفيلم، على وفق سياق منطقي يكسب هذه الشفرات قيمتها.
كما قلنا فأن عناصر الصورة والصوت هي التي تشكل النص الفيلمي وتكسبه أهمية، فعناصر مثل:
1-الإضاءة: فن أفادت منه الكثير من النصوص مثل اللوحة الشكلية والصورة الفوتوغرافية لإيصال دلالات مدنية ونفسية وجمالية للنص المرئي فيها وهي كما نعرف نصوص غير متحركة
أما في النص الفيلمي فأن الإضاءة تلعب دوراً مهماً في بنية هذا النص إذ يجعلنا أحيانا نصل إلى مفهوم معين عن المكان الذي يشتغل النص عليه قبل الدخول في تشعباته وهي هنا تلعب دور التهيئة النفسية للمشاهد او لمتلقي النص .
2 – الملابس والديكور: يشكل الديكور أحد العناصر المهمة للنص الفيلمي كونه هذا النص هو نص مرئي وهذا ما يميزه عن بقية النصوص الأدبية والفنية والقانونية وغيرها. فالنص المرئي يجب أن يتوفر على جميع عناصر الصورة التي تعرض للمتلقي، ويحاول صانع العمل أن يجعل الديكور يوفر للمتلقي قناعة بحقيقة المكان، أو بما يحيله الديكور من رمزية ذات دلالة سينمائية يدركها المتلقي بصورة مباشرة وأيضا يسهم في أضفاء جمالية على مكان الحدث.كذلك فان الملابس تمثل نماذج وطنية وتعبر عن نماذج اجتماعية يتناولها النص الفيلمي وينبغي للملابس المستعملة في السينما « امينة للواقع الى اقصى حد .
3 – الدور التعبيري للكاميرا
يقول مارسيل مارتن ان مولد السينما كفن يؤرخ باليوم الذي فكر فيه المخرجون في تحريك آلة التصوير خلال المشهد نفسه اذ انه تم بذلك اختراع التعبيرات في احجام المناظر.
فحركة الكاميرا قد اسهمت في اغناء المعنى الدلالي لصورة، وهناك ثلاثة انواع لحركة الكاميرا مثل الترافلنج والتي هي عبارة عن تحرك الكاميرا بينما تظل الزاوية بين خط محور العدسة واتجاه سير الكاميرا ثابتة ولها عدة معان ودلالات تصب في صالح العمل الفني . وكذلك حركة البانوراما التي هي عبارة عن حركة دائرية من الكاميرا حول محورها العمودي أو الافقي من دون نقل الالة من مكانها، ونبرر هذه الحركة ضرورة تتبع شخص او عربة في حالة حركة، وحركة الكرين التي هي مزيج غير محدد من حركة الترافلنج والبانوراما وتنفذ بألة تشبه الالة الرافعة. واضافة الى حركات الكاميرا تشكل المقاسات المختلفة للقطات اهمية كبيرة للصورة السينمائية ، ولكل لقطة منها دلالتهاالتي يمكن لصانع الفيلم من خلالها ايصال ما يريده من معاني للمشاهد ، كذلك فان تشكيل الملاك يسهم في تقديم مضمون الصورة بشكل ذي معنى ففي فيلم «الارض» ليوسف شاهين وفي لقطة كلوس لوجه الفلاح ابو سويلم وهو يملأ الملاك تنساب دمعة من عينه لتصل الى شاربه الذي حلقته الشرطة في المعتقل ، وهذا الملاك يوضح مدى الاهانة التي تعرض لها هذا الفالح والمتمثلة بحلق شاربه الذي هو دليل الرجولة الاقوى في مجتمعه .
وكذلك فان المجرى الصوتي بأكمله وليس الحوار فقط هي احد المرتكزات الأساسية في بنية النص الفيلمي والحوار في النص الفيلمي ليس مجرد كلام نثري أو محادثة وإنما هو تكثيف وتلخيص فني للكلام الاعتيادي لأجل تغذية القصة المروية على الشاشة فالحوار الدرامي ليس حديثاً مسجلاً على صورة منقولة له تماماً للكلام الاعتيادي بل انه الكلام الحقيقي بعد الاختيار والترتيب والتحرير لإغراض درامية،ويعتمد الحوار في توصل الأفكار والمعلومات الموجودة عند الشخصيات إلى المتلقي ، لذا يتحتم على كاتب الحوار في النص الفيلمي العمل على اختيار المفردات المناسبة والاقتصاد فيها وعدم المبالغة والأطناب في اللغة المستعملة ، وهو حوار يختلف عن الحوارات والنصوص الإذاعية والتلفزيونية.
ويقسم المجرى الصوتي إلى أربعة أقسام هي:
1 – الحوار
2 – الموسيقى
3 – المؤثرات الصوتية
4 – الصمت
و يمكن القول أن الصوت في الفيلم السينمائي يمكن أن يصبح أكثر أدبية من النص الأدبي نفسه نظراً لوجود الصورة ووجود من يستطيع إلقاء النص الأدبي بلغة النص ودلالاته إلى حدودها القصوى.
المونتاج والبناء الفلمي :-
يسهم المونتاج مساهمه فاعلة تكوين البناء المعماري للفيلم الروائي وتعد اللقطة اصغر وحدة مونتاجيه، حيث ان كل الانتاج الفلمي يبدأ باللقطة، ويؤلف مجموع اللقطات مشهدا، ليكون مجموع هذه المشاهد تتابعا ومجموعة التتابعات هو السيناريو.لذلك فان القطة تعد اصغر وحدة بنائية، واللقطة نص اذا كانت مكتفية لحظة اكتمالها حالها حال حروف وجمل نص الاعمال الادبية اذن اللقطة هي الحامل الاساسي للمعاني في لغة السينما وكل هذا يبين الصعوبة في اعتبار اللقطة وحدة بنائية للعرض السينمائي برغم انه لابديل عنها علميا.
وكما قلنا فان مجموع اللقطات والمشاهد والتتابعات هي السيناريو فأن كل هذا يتم عبر بناء مونتاجي، هو فيزيائيا ربط شريحة فلمية (لقطة واحد) مع أخرى، ويقوم المونتاج في اثناء هذه العملية بازالة الزمان والمكان غير الضروريين حيث ان المونتاج يربط لقطة بأخرى ومشهدا بأخر عن طريق ارتباط الأفكار وبرغم البساطة التي قد تبدو من خلالها عملية المونتاج الفيلمي لكنها الحجر الأساس في بنية الفيلم ويشير تيري رامزي احد النقاد الأوائل للفيلم السينمائي إلى المونتاج على انه «البناء اللغوي» للسينما ، ولغة القواعد فيه .
لذلك فأننا لا نستطيع أن ننجز فيلماً سينمائياً ذا بنية عميقة وواضحة من دون المونتاج لانه سيكون فيلما تسجيليا ساذجا يشبه الى حد ما الافلام البسيطة الاولى لاكتشاف السينما مثل افلام الاخوة لومير ،كون المونتاج هو احد البنى العميقة للعرض الفيلمي ، لذلك فهو يلعب دوراً خلاقاً في البناء الفيلمي وتسلسل المشاهد وترتبها بما يتلاءم ورؤية صانع الفيلم ، وان حذفه و تغيره يؤدي حتماً إلى تغيير جميع مفردات وعناصر الفيلم السينمائي وقد تطور المونتاج مع تطور الفن السينمائي منذ العام 1900والعقود التالية ليكون احد مظاهر البنية العميقة للعرق الفيلمي حيث بدأ صانعو الأفلام بالتقطيع ضمن المشاهد إضافة إلى القطع ضمن مشهد وأخر. وكان جريفث وازينشتاين رائدين في هذا المجال. ويعد المونتاج نهج جديد اكتشف من قبل الفن السابع ليكون الركيزة البنائية للعرض الفيلمي وبناؤه المعماري وشكله النهائي الذي يصل للمتلقي
العلاقة بين النص المكتوب والنص الفيلمي:
يحمل كل من النص الفيلمي والنص المكتوب خصوصية وسمات محددة تميز أحدهما عن الأخر. ولكن يقوم صانع الفيلم يخلق مسافات واصلة بينهما وأواصر تجسير ومقاربة واقعية ومحتملة لهذين الوسيطين التعبيرين واللذين يشكلان أبنية خاصة لكل منهما، ولكنه أي صانع الفيلم يتمكن في النهاية من جمعهما في خطاب واحد هو الفيلم السينمائي. العلاقة بين هذين الوسيطين يمكن تتبعهما إلى طفولة السينما تقريباً.
فمع البداية الأولى للسينما استعمل العديد من المخرجين النصوص الأدبية أساسا للعديد من الأفلام التي صنعوها.
وكان هناك تأثير متبادل بين الاثنين ويقول – كريفث –أن العديد من تجديداته كان في الواقع مأخوذاً من صفحات ويكنز.
ويقول أزنشتاين ان روايات ديكنز قدمت لكريفث عدداً من التقنيات بضمن ذلك ما يقابل الاختفاء التدريجي، والتداخل، وتكوين الصورة والتجزئة الى لقطات والعدسات الخاصة بالتحوير وأهمها جميعاً مبدأ
المونتاج المتوازي، حتى أن ابزتشتاين حول الفصل الحادي والعشرين من رواية اوليفر تويست إلى نص تنفيذي ليدل على أحاسيس ديكنز السينمائية، نفهم من هذا ان البدايات الأولى لفن التوليف او المونتاج كان له ما يعادله في النص الأدبي المكتوب، وبالتالي كان هذا مما أتاح لمخرجين رواد مثل كريفث وازينشتاين خلق تقسيماتهم السينمائية المتجددة وخصوص على مستوى المونتاج الذي اسهم بشكل فاعل فيما بعد يدعم قوة الايقاع في النص الفيلمي وجذب انتباه المتلقي من خلاله اعتمادا على الشفرات الدلالية التي بثها النص الفلمي.
والسينما أو النص الفيلمي غير قابل للنقل المباشر للنص الأدبي إلا أذا أخضعته إلى تحولات فعلية، أي ان نقطع النص الأدبي أو بتره، إن أمكن، هو الطريق المنطقي والطبيعي الملازم لهذه الوسيلة العبقرية التي هي السينما.وبسبب اختلاف الزمن الروائي والزمن الفيلمي يمكن للمخرج ان يتوفر على آليات الاختزال والتأثيث بواسطة تحليل الزمن الروائي والزمن الفيلمي الذي يقسمه «جيرار جينيت» إلى أربعة أقسام وهي :-
1 – الحذف: الذي يرمز في الرواية إلى القطع، الزمن الغائب.
2 – الخلاصة: وهي تشير إلى الزمن الذي نحذفه ونكثفه لأنه متعلق بالزمن السريع.
3 – الوقف: وهو عكس الخلاصة حيث يتم تطوير الزمن واغناؤه وجعله يمر بشكل بطيء.
4 – المشهد: يحيل المشهد الى المرجع الحسي للزمن الواقعي عند القارئ وهو ما يسمى بالزمن الحاضر.
وترى جان ماري كلبرك أن أعادة حكي رواية مرة ثانية سيجعلها أكثر جمالاً ومتعة، لأنها ستصبح رواية أخرى مختلفة وإعادة الحكي عبر الوسيط السينمائي يعتمد في لغته على الدال الايقوني والدال اللساني والدال الموسيقي، من خلال تفكيك النص الأول وإعادة توزيعه بواسطة لغة جديدة هي لغة الصورة. وبهذا نكون أمام نص جديد ذي أشكال دالة جديدة متمثلة بالنص الفيلمي الذي هو عبارة عن فضاء وسائطي مولد لتبادليه جوهرية تضع السينما مكان الرواية أذن نستطيع أن نخلص إلى القول أن المادة الأدبية المكتوبة سواء كانت نصاً روائياً أو شعرياً، يتحول بتناوله من قبل السينما إلى نص أخر لا علاقة له بالنص الأصلي، ليس دائماً وذلك لاختلاف الوسيط وكذلك لاختلاف عناصر النص الجديد الفيلمي وأدواته.
لذا فأن النص الفيلم هو نص قائم بذاته، معتمداً على أدواته وله لغته الخاصة التي تتوفر على العديد من الدلالات التي تصل للمتلقي، هو كأي نص آخر خاضع للتأويل والتفكيك والتحليل الذي يقصد دراسته من خلال إخضاع كل عنصر من عناصره إلى دراسة تحليلية تسعى لكشف ما وراء الصورة التي هي وسيطه
التعبيري والتي جعلته نصاً متميزاً عن النصوص الأخرى المقروءة والمسموعة وله بنيته المعمارية الخاصة به.
برغم انه كبنية قد يشترك مع نصوص أخرى في مكونات بنيته المعمارية وان تكن ليست بالشراكة التي تصل حد التقارب.
فالحوار مثلاً هو إحدى عناصر البنية المسرحي والروائي، كذلك فهو في النص الفيلمي يشكل عنصر رئيسي وفاعلاً في بنية هذا النص.
كذلك فأن النص الفيلمي يقدم للمتلقي خبرة فنية مشابهة لأدراك الإنسان للواقع عبر حواسه.
وقد كان هناك اعتراض على كون الفيلم نصاً خصوصاً فيما يتعلق بالمصطلح حيث أن أستعمال كلمة نص كان يرتبط في البدء للإعمال الأدبية قبل ان ينسحب على الأعمال الفيلمية وغيرها من الأعمال الفنية
أخيرا فأن فاعلية النص الفيلمي تقودنا نحو فهم بنائية الصورة كمرتكز اساسي في التعبير الفيلمي كنص، عندها يصبح النص نظاما نابضا بالنسبة للمشاهد والمحلل، ونظاما يطوع الشفرات في تشكيل خاص يدفعها لاطلاق رسالتها في سياق حدد نمطه مسبقا، ان النص أكثر بكثير من مجرد مجموعة او طاقم، انه بالنسبة للمحلل الناجح والمشاهد الناجح نظام منطقي لعدد مفترض من الشفرات يمكنها ان تضفي قيمة على الرسالات.
المصادر :-
1 – محمد الاخضرا لصبيحي، مدخل الى علم النص
2 – علاء عبد العزيز، الفلم بين اللغة والنص .
3 – جاك امون تحليل الافلام.
4 – مارسيل مارتن، اللغة السينمائية.
5 – ستيوارت كريفتش، صناعة المسرحية.
6 – لوي دي جانيتي، فهم السينما، ترجمة جعفر علي.
7 – حمادي كيروم، الاقتباس من المحكي الروائي الى المحكي الفلمي.