بقلم: عبد الغني سلامة
ما زلتُ أذكر جيدا مرحلة نهاية السبعينيات من القرن الماضي، بأجوائها، وشخوصها، وأحداثها.. وهي كما أثرت بي، أثرت على العالم الإسلامي ككل، فقد كانت نقطة مفصلية في التاريخ المعاصر. ووفقا لنظرية «أثر الفراشة»، فإن الأحداث تؤثر على بعضها، وتخلق بيئات جديدة تولد واقعا جديدا؛ فمثلا في الخمسينيات والستينيات، انتصرت الثورة الفيتنامية والكوبية، وأشعل جيفارا ثورات عديدة في أميركا اللاتينية، وفي إفريقيا، بدعم من الاتحاد السوفيتي.. كما انتصرت الثورة الجزائرية.. كان لهذه الأحداث تأثير كبير في التعجيل في انطلاقة الثورة الفلسطينية، وانطلاقة العمل الفدائي، ونهوض القوى اليسارية. في سنوات السبعينيات، وقعت أيضا أحداث مهمة، غيرت مجرى التاريخ من بعدها، سأذكر منها فقط ما يتصل بموضوع المقال؛ مثلا، في صبيحة اليوم الأول من العام 1400 هجري، وقف الشيخ «همام سعيد» على المنصة، وألقى في مدرستنا كلمة الصباح، وكانت خطبة مطولة، بعد الظهر بدأت وكالات الأنباء تتناقل خبر اقتحام «جهيمان» للحرم المكي.. قبلها، وفي السنة نفسها، كان «الخميني» قد عاد من منفاه في باريس، ليعلن قيام الجمهورية الإسلامية.. وقبل انتهاء العام كانت القوات السوفياتية تجتاح أفغانستان.. في خريف العام التالي، اشتعلت الحرب بين الجارتين اللدودتين العراق وإيران. أثارت قصة «جهيمان» الحيرة في نفوسنا، وانقسم الناس بين مؤيد ومعارض، وكذلك الحرب العراقية الإيرانية، بيد أن نجاح الثورة الإيرانية، واشتعال الحرب الأفغانية لاقى تأييدا من قبل الجميع تقريبا.. المهم أن تلك الأحداث وغيرها، لعبت الدور الأهم في انطلاقة الإسلام السياسي بنسخته المعاصرة، وانتشاره، تحت مسميات «الصحوة»، و»المد الديني». في تلك الفترة، مِثل كثيرين من أقراني، انتميتُ لجماعة الإخوان المسلمين، وصرتُ أواظب على حضور جميع الصلوات في المسجد، وأستمع للدروس الدينية، ولا أتغيب عن الاجتماع الأسبوعي «للأسرة»؛ أي الخلية التنظيمية الإخوانية، وهي بحدود خمسة أفراد، يترأسها شيخ أكبر سنا، وأكثر معرفة. ربما كانت «صويلح» المدينة الأهم لجماعة الإخوان في تلك الفترة، فمنها انطلقت وتوسعت.. وبالذات من «الحي الشرقي»، وهو حي شعبي مكتظ، أغلبه من الطبقة الفقيرة ودون الوسطى، وبسبب قربها من الجامعة الأردنية، التي كانت تضم كلية الشريعة، فقد سكَنَ معظم أساتذة وطلبة الكلية في ذلك الحي، فصار جامع «عبد الرحمن بن عوف» مركز النشاط الدعوي والتنظيمي للجماعة.
كان لخطابات الشيخين «عبد الله عزام»، و»أبو ساجدة» تأثير كبير فينا (وهما الآن في دار الحق)، وكذلك ما كنا نتلقاه من تربية حزبية وأيديولوجية من خلال أنشطة الجماعة، فإضافة للدرس الديني الذي يعقب صلاة المغرب، وهو مُتاح للجميع، كانت هناك أنشطة خاصة بأعضاء الجماعة، مثل الأنشطة التي كانت تنظم في «دار القرآن الكريم»، في الطابق الأسفل للجامع، وكذلك الأنشطة التي كانت تُقام في مقر الجماعة (جميع مقرات الإخوان المنتشرة في جميع المحافظات الأردنية كانت علنية ومرخصة)، إضافة للرحلات الجماعية، والمخيمات الكشفية.. وهذه أنشطة معروفة للجميع، ولا أذيع سراً هنا.. المقصود من ذكرها أنَّ ما سأقوله مأخوذ من المصدر الأساسي، وكنتُ شاهدا عليه، وبالتالي، هي نظرة عامة، لأحداثٍ مهمة، ولكن من منظور شخصي..
ومع إني نشأت في أسرة مسلمة، متدينة، محافظة، تقيم جميع الشعائر الدينية.. إلا أني بدأتُ في ذلك السن، أكتشف إسلاما جديدا، وبدأت أختبر تدينا مغايرا، عما ألفته سابقا.. كنا بعد كل اجتماع حزبي نخرج بنتائج عامة، مفادها أننا نعيش في مجتمع جاهلي، وأنَّ النظام كافر وعميل، وأن فهم الناس للإسلام خاطئ وقاصر، والأصدقاء ممن هم خارج الإخوان هو أصحاب سوء، يتوجب علينا هدايتهم (ضمهم للإخوان) أو مقاطعتهم.. أما العائلة الصغيرة التي نعيش في كنفها، فهي من وجهة نظرهم لا تقيم الإسلام الصحيح، وتقترف الكثير من المعاصي، وأن علينا مخالفتهم وعصيانهم في كل الأمور المتصلة بفكر الجماعة وأنشطتها (دون أن نصل مرحلة عقوق الوالدين).. وكنا نتلقى تعليمات معينة، مثل وجوب منع الاستماع للأغاني في البيت، أو مشاهدة المسلسلات العربية (وبدرجة أشد تحريما الأفلام الأجنبية)، وضرورة إلزام الفتيات لبس الحجاب والجلباب (بشكل ومواصفات معينة وصارمة، بما في ذلك رفض الثوب الفلسطيني التراثي)، حتى لو تطلب ذلك الدخول في معارك بالأيدي، أو ترك البيت نهائيا.. وقد كان ذلك أسهل على الرجال الكبار ممن انضموا للجماعة؛ فطبيعة دورهم الاجتماعي «البطريركي» تتيح لهم إمكانية فرض تلك التعليمات بالقوة.. وصل الأمر ببعض الآباء منع اقتناء العديد من أدوات العصر الحديثة، خاصة التلفزيون. في المدرسة، بدأت تظهر أنواع من الانفصام بين الطلبة الإخوان وزملائهم، وحتى بين المعلمين.. وكان يُطلب منا التصدي للمعلمين الذين ينشرون الأفكار الوطنية والقومية، أو ممن لا يسيرون على نهج الإخوان، وصل الأمر أحيانا إلى العراك بالأيدي، والتهديد بالضرب.
على مستوى المجتمع، بدأ الانسجام يتلاشى داخل الأسرة شيئا فشيئا، وصارت العلاقات بين الأشقاء والأقارب تُحدد وفق الفتاوى والوصايا، وأخذت علاقات النَّاس ببعضها تضطرب وتنقسم، وصارت بعض الفتاوى تغرس الكراهية داخل المجتمع، مثل القول بنجاسة الجار الفاسق، وعدم الترحيب بغير المسلم، والنَّظر إلى بناء الكنيسة بأنه عداء للإسلام (أذكر تحريض الجماعة ضد كنيسة كان مقرراً بناؤها في صويلح). وظهرت الطائفية (التي ظلت كامنة لعصور خلت). وظهر لأول مرة «البنك الإسلامي»، وتحولت الأعراس الشعبية إلى حفلات دينية، وانتشرت اللحى الطويلة (مع تحريم حلاقتها)، وظاهرة الدشاديش، واللباس الأفغاني، والنقاب، وانصب الاهتمام على مظاهر شكلية، أخذت طابع التحريم، خاصة فيما يتصل بالملبس والمأكل، وتحريم كلّ سلوك اجتماعي ليس على أسلوب الإخوان، وأخذ المجتمع يُصبغ بصبغة العسكرة الدِّينية. وأخطر ما وصلت القوى الدِّينية بصحوتها، هو رخص الحياة، بإغراء الشَّباب لنيل الشَّهادة (في سبيل الله)، والحقيقة كانت في سبيل الجماعة. كان الوضع بالمنطقة، يسير لصالح ثقافة الإسلام السِّياسي، لذلك، أغلب المجتمع تكيف مع تلك المتغيرات الجديدة، واستجاب لها سريعا، فقد نشط في تلك الآونة العديد من الخطباء المفوهين (منهم مثلا المرحوم «أبو زنط»)، الذين برعوا في مغازلة عواطف الناس الدينية، واستغلال الظروف السياسية والاقتصادية البائسة التي كانت (وما زالت) تمر بها المنطقة، وصارت خطبة الجمعة (وخطبة العيدين) المنابع الرئيسة التي يستقي منها الناس فهمهم للدين، وانتشرت ظاهرة «الداعيات» في البيوت.
جريدة الايام