أحمد شوقي
خلال مناقشة تالية للعرض الأول لفيلم « غداء العيد « للمخرج لوسيان بورجيلي في الدورة الأخيرة لمهرجان دبي السينمائي الدولي، علق أحد الأصدقاء اللبنانيين بأنه رغم جودة الفيلم إلا أنه من الصعب أن تختار لجنة تحكيم مسابقة المهر العربي منح الفيلم جائزة لأنه حسب وصفه « فيلم لبناني جداً « يصعب فهمه كاملاً لمن لا يعلم شكل المجتمع اللبناني، وبعض سماته الديموغرافية والسياسية لكن لم تمر أيام على المناقشة حتى اختارت لجنة التحكيم أن تمنح جائزتها الخاصة لفيلم بورجيلي بين 18 فيلما تنافست في المسابقة ، وكأن الفوز بهذه الجائزة تحديداً هو رد طريف على الصديق ، وتأكيد على أن تعمق « غذاء العيد « في الشأن المحلى لم يأت على حساب قدرة الفيلم على التواصل مع المشاهد بصرف النظر عن خلفيته ، فهو فيلم « لبناني جداً « ولكنه ايضاً « انساني جداً « .
بفريق كامل من الممثلين الذين يقفون للمرة الأولى أمام كاميرا السينما يصنع بورجيلي فيلمه الروائي الأول، المشارك في مسابقة افاق السينما العربية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي الأربعين، في خيار يلائم خلفيته كمسرحي نشط ومدرب ممثلين متمرس، ويتوافق قبلها مع طبيعة الفيلم الذي احتاج الى وجوه طازجة ، تؤدي أدوارها على الشاشة انطلاقاً من أرضية واحدة فيسهل على الجمهور أن يصدق أنهم افراد عائلة لبنانية مسيحية تجتمع على طاولة غداء العيد، ليمنحنا التفاعل الحواري بينهم ثم ما يظهر لاحقاً من أزمة تفجر الخلاف بينهم ، صورة بانوراميه للشخصية اللبنانية .
لاحظ هنا أن الصورة ليست للمجتمع اللبناني وإنما للشخصية اللبنانية ذاتها، فيلم لوسيان بورجيلي لا ينشغل بتصنيف شخوصه الى انتماءات ومجموعات عقائدية أو أيديولوجية رغم وجود شخصية أو اثنتين يمكن تطبيق الوصف عليهما، بل يهتم أكثر بالنفاذ الى التعقد الإنساني الملازم للشخصية اللبنانية والـذي يصـل حـد الازدواجيـة احيـانـاً.
أبطال « غداء العيد « على تنوعهم هم تمثيل لمجتمع غريب التكوين، فمن جهة هو حي تعددي يسمح بمساحة من الحريات الشخصية والسياسية أكبر من مثيلتها في أغلب الدول المحيطة، ومن جهة أخرى ترقد تحت الرماد فيه نار الطائفية والعنصرية، ويحكمه فساد لا ينتبه ممارسوه لأنهم يسهمون يومياً في اشعال فتيل هذه النار التي أكتوى البلد بها طويلاً.
حسناً..فيلم بورجيلي ليس عن السياسة وإن كانت حاضرة بقوة في خلفيته، ككل شيء لبناني في حقيقة الامر، لكن ما يبرع فيه النص البارع (كتبه المخرج بنفسه) هو توريط مشاهده – ببراعة في كل ازمة صغيرة تطرأ على العائلة خلال اجتماعها السنوي، وجعلنا نهتم حقاً بكل حدث درامي مهما كان حجمه، بداية من الورطة الكبرى باختفاء المبلغ المالي والتي يصير كل من في المنزل مشتبها في ارتكابه لها، وصولاً للمشكلات الاسرية الصغيرة – والدالة – بين الام وابنها، الزوجة وزوجها، والاخت وزوج شقيقتها.
لن نتوسع في تفسير طبيعة هذه الوقائع حتى لا نؤثر على متعة مشاهدة الفيلم لمن يقرأ المقال ، لكن يكفى القول أن أزمات أفراد العائلة هي أزماتنا جميعاً ، وبيوتنا كلها تجمع الحالم في الهجرة باحثاً عن مستقبل افضل ، الرجعي الذي يجبر زوجته على قراراته وهو يؤمن انها خياراتها الحرة، المراهق المُحبَط والمُحبِط لأهله، ومن يقوم بتنازلات صغيرة من أجل كسب قوت أسرة قد لا يتفهم أبناؤها هذا التنازل وفي الأعياد يجتمع كل هؤلاء لممارسة طقوس المحبة المتبادلة التي يفوق الادعاء فيها الصدق صحيح أن اغلب هذه الاجتماعات يمر بسلام دون ان تشتعل الأمور فيه كما وقع في « غداء العيد « لكن المرور الامن لا ينفى الصـدام المحتمـل، والمجتمـع المكـون من أُسر قابلـة للانفجـار هـو بالتأكيـد يعيـش فـي انتظـار انفجـار مؤكـد.
« غداء العيد « على هذا المستوى هو استبصار عميق في النفس البشرية عموما واللبنانية خصوصا، استبصار يمزج بين التحليل والتفهم واللوم، فهو يحلل أسباب الاحتقان القائم، يتفهم ضعف وتعقيد نفوس شخصياته مهما أظهروا من اقوال وافعال تتجاوز أحياناً المقبول نحو حدود العنصرية والطائفية، ويلومهم لوم المحب بسبب قدرتهم على التعايش ومع كل هذه القروح داخل نفوسهم وماضيهم وعلاقتهم حتى بأقرب الناس إليهم.
التشابه بين نوع المشكلات الاسرية ومثيلتها في كل مكان اخر يمنح الفيلم انسانيته الاوسع من حدود الشأن اللبناني، وخيار لوسيان بورجيلي بتصوير مشاهده بكاميرا محمولة لا تتوقف عن الحركة. مع الممثلين الجدد كما ذكرنا يسهم في هذا الشعور بالواقعية الخشنة، بأننا نجلس على طاولة الطعام مع هؤلاء الأشخاص، تحركنا الدوافع ذاتها، نفس السخط على الوضع الراهن بينما نتعايش معه وننخرط – بقصد أو بدون – في ممارساته التي لا ننفك نلومها إذا ما بدت غيرنا.