فلم «DOGMAN» لا يوجد ضعف مستمر، ولا قوة تدوم الى الأبد

صباح محسن

رجل كلب، قد تستوفي هذه الوصفة، او اللقب الاشارة لرجل اقرب في سلوكه ومتبنياته لتصرفات الكلب ليس لأنه محاط وبسبب عمله في متجره، او صالونه المخصص لمعالجة الكلاب المتوترة، او تلك التي تحتاج للمسة يده وتمسيدته النافذة لجسد كلاب الحي المصابة بالانفعال والتوجس، بل لأنه يتماهى مع انزعاج كلاب الحي الذي يسكن والذي يبدو عليه حال التوتر وعدم السكينة، لأسباب عديدة ، منها عزلة الحي نفسه، وتخبط نماذجه، واحاطتهم لطروحاتهم بشيء من الترقب ، والريبة فيما بينهم .
تلك الثيمة المعلنة لاشتغالات المخرج ماثيو غاروني والتي اسس عليها رؤيته الاخراجية معززة برؤاه الفنية والمغلفة بقراءة نفسية اجتماعية لكشف بواطن نماذجه في فيلم تعاطى مع تقلبات سريعة في مجتمع يتحول بفعل صراع خفي بين انحطاط اخلاقي متفاقم، وبين رؤية مضادة لكنها مدفونة في العقل الجمعي لمجتمع قفز سريعا في اتون الحداثة .
شارك المخرج في كتابة السيناريو والقصة، عن واقعة حقيقية حدثت في حي ماجليانا على اطراف العاصمة روما، تناولت تداعيات مقتل ملاكم منفلت على يد احد معالجي الكلاب وسط الحي .
حي معزول، وكأنه مقتطع من عالم غير موجود، وابنية توحي بكآبة صارخة، وشخصيات مرتبكة، لا تعلن ولاءها بسهولة، خاصة لمن هم اقل شأنا، وغير محاطين بقوة لحمايتهم .
يعيش بطل الفيلم السيد مارسيلو بين هذا الوسط الملغوم، رجل ضئيل البنية، لا يحوز على اية قوة، ضعيف في بناءه الجسماني، قليل الكلام، يرى الامور بمنظور كلب، كونه لا يشعر بآدميته سوى مع الكلاب التي يعالجها، يتورط بعلاقة مع ملاكم منفلت تدور حوله شبهات عديدة، من تجاوز على ابناء الحي بقوة يديه وتعاطيه للممنوعات، ليشترك مع السيد مارسيلو بعمليات نصب وسرقات وتجارة مخدرات وتحت قوة واستبداد وترويع الملاكم سيميوني الباطش والمندفع بقوة عضلاته وبأسه في التعامل مع الآخرين، ابراز محاولات بعض من ابناء الحي الذين يشبهون سيميوني بطموحاتهم ومشاعرهم الحبيسة من طغيانه على الحي، وافشاله لمشاريعهم وتعاطيهم الممنوعات والتي هي السمة المعلنة لاشتغال اغلب ابناء الحي المعزول ، والذي يبدو عليه حال العزلة، سوى من تكرار مشهد ركلهم الكرة في ملعب ملحق بالحي ، وكأنهم يمارسون طقسا خاصا لانتشالهم من كآبتهم عن طريق لعب كرة القدم..؟
يبدأ الفيلم بمشهد على عرض الشاشة عن تكشيرة كلب منفعل، يوحي من خلال بروز انيابه بمعاداته للكل ، وكأنه مهيئ للانقضاض على الجميع .
لينتقل المخرج غاروني لكشف حياة الحي وساكنيه عبر السيد مارسيلو وتعامله مع كلاب مشدودة ومعادية بشكل دائم، لينتهي بها الحال للهدوء على يد السيد مارسيلو وكأنه منوم مغناطيسي .
تتصاعد الاحداث بشكل متسلسل، لتفاقم سلوك سيميوني عدائية وبطش، وخنوع يتزايد من قبل مارسيلو الضئيل والضعيف لمتطلبات سيميوني، مع نظرة حسد وعدم ارتياح من قبل آخرين يتقدمهم فرانكو بالشعور بالحيف من تمادي سيميوني على مقدراتهم وقوتهم وتعاطيه التعامل مع مارسيلو الضعيف فقط ! مما يُشعل حربا غير معلنة معهما من قبل رحال فرانكو ، ويضعون خطة للإتيان بأحد القتلة لتخليصهم من سيطرة سيميوني على الحي، لكن الفكرة لم تحصل على الاجماع خوفا من اكتشافها من جانب سيميوني ، ليمضي في تحديه لهم، وبشكل فاضح.
في تطور لافت، في بناء الحبكة، ولأهمية تصاعد الاحداث ، ولأهمية الفعل الدرامي بتصاعد الحدث لذروته ، يطلب سيميوني من مارسيلو ان يحتل متجره ليوم واحد، وذلك للسطو على مدخرات متجر مجاور لمتجر مارسيلو ، ورفض مارسيلو للفكرة، وبأصرار، لكن عنجهية وقوة سيميوني وقيامه بضرب مارسيلو وتعليقه من عنقه على جدار متجره، أجبره على اغلاق متجره ليقوم سيميوني، باليوم التالي بتحطيم الجدار المشترك بين المتجرين وسرقة جميع المدخرات والحُلي والاختفاء لعدة ايام وامام انظار ابناء الحي وذهولهم واندهاش رجال الشرطة لعملية السرقة، مع ان الجميع يعرف ان سيميوني هو الفاعل ، لتأخذ الاحداث مسارا آخر حين يتم زج مارسيلو السجن لان الدلائل تشير باشتراكه في السرقة ، كونه سلّم مفاتيح متجره للص، ورفض مارسيلو الاتهامات ، وعدم مثوله لمغريات المحقق لأطلاق سراحه على ان يشهد بان سيميوني هدده بالقوة على فعل ذلك ، لكنه لم يرضخ ، ليتم زجه في السجن ويقضي عاما كاملا فيه.
وحين خروجه ينكر عليه سيميوني وعده بإعطائه نصف اموال السرقة، ويتجاوزه وكأنه حشرة !
تنكيل اهل الحي له، وسخريتهم منه ! وعدم قبوله في اللعب معهم في فريق كرة القدم المحيّر، مما يزيد في عزلته وصمته ، تتوسله زوجته وابنته الوحيدة بمغادرة الحي ، لكنه لا يستجيب، ويبدأ العمل على سيناريو للقصاص من سبميوني، بعد فشله في اقناع سيميوني باعطائه المال الذي وعد به، واقتحامه لدراجة سيميوني الجديدة التي ابتاعها من اموال السرقة، وتحطيمه لها، مما يدفع سيميوني للانقضاض عليه وتحطيمه في متجره وتشويهه بلكمات كانت ان تودي بحياته وامام انظار زوجته وابنته وابناء الحي الناقمين عليهما .
لكن رجل كلب يتجاوز جراحه وانكساره، ليبدء عملية تودد وانصياع لسيميوني لمحاولة اغراءه عبر تقديم عينات من الممنوعات عالية الجودة كان يحتفظ بها بمكان خاص، ليندفع سيميوني بتصديقه، ووعود مارسيلو بتقديم المزيد له، ليصدقه سيميوني المندفع والضعيف امام رغباته، ليوقع به مارسيلو وبعد اقناعه بان هناك تجار ممنوعات قادمون لمتجره للقيام بصفقة تدر عليهم مالا وفيرا، وما على سيميوني سوى مباغتتهم والاستيلاء على بضاعتهم والهروب سوية لاقتسام المال بينهما في مدينة اخرى، لتنطلي الخطة على سيميوني ويطلب منه مارسيلو الاختباء في احد اقفاص الكلاب الموجود بعضها في اقفاص مخصصة لبعض الكلاب التي تحتاج لترويض، وبعد تردد من سيميوني وتردده من عدم قناعته بدخوله القفص، لكنه يرضخ لمبادرة مارسيلو المقنعة بان العملية لا تتجاوز سوى دقائق معدودات، ليرضخ سيميوني ويدخل القف، ليبدأ مارسيلو بإجراءات القصاص من سيميوني، بدءً بالسخرية منه، واهانته، والتنكيل به، وتعذيبه، رغم عناد سيميوني ومحاولته كسر اسوار القفص، لكن مارسيلو يباغته بالاطاحة به بضربه على راسه بعمود حديدي ليقوم بربطه في حمام الكلاب ويقوم بإعدامه بسلاسل حديد امام ذهول سيمويوني ومحاولته الافلات ، لكنه لا ينجح.
ثم يقوم بنقله بسيارة نقل واستقبال الكلاب لحقل مجاور للحي، وقريب من ملعب الكرة التي يتواجد بها جماعة فرانكو دائما، يحرق جثة سيميوني ، ومن ثم يطفئ النار التي اشتعلت بالغطاء الذي قام بلف الجثة به ، لتقفز براس مارسيلو فكرة جديدة وهي اعلان قتله لسيميوني لجماعة فرانكو الذين عادة ما يتواجدون في ملعب كرة القدم القريب من مكان الجثة، وحين يذهب هناك لم يجد احدا منهم، مما يدفع به لرفع جثة سيميوني العملاق فوق كتفيه والذهاب بها لملعب كرة القدم، وحين وصوله لم يجدهم ، وبعد معاناته ولهاثه وجهده في رفع جثة سيميوني الضخمة ، يصرخ بصوت عال ومنكسر ، اين انتم ، لقد قتلت سيميوني ، الا تسمعون، وهذه هي جثة سيميوني، لكن ليس هناك من مجيب ، لينتهي الفيلم بصوت صفارات سيارات الشرطة. وهي تقترب، لتنتقل الكاميرا على وجه مارسيلو وابراز تعابير مختلفة تجمع بين احساسه بالانتصار واخرى تشعرنا بهزيمته، لعدم رؤية مجموعة فرانكو ما قام به من عمل عجزوا هم من القيام به .
يوحي لنا المخرج غاروني في مشهد حمل جثة سيميوني فوق اكتاف مارسيلو الضئيل والخائر القوى، بقوة الجندي اثناء احتدام المعارك وشعوره بنهايته، واقتراب تواريه ، واحساسه بعدم يتفاقم جراء عزلته ووحدته ، من استنهاض همة اخرى مبيته ومحصورة في تلابيب بواطنه ، لستجمع كل جبروته للقيام بفعل اخير انقاذا لحياته ، وهذا ما خبرناه في الحرب، وما سمعنا عنه من حكايات ووقائع تشير لقوة الجندي في استنهاض قوته احياءً لمحوه .
لينتهي الفيلم بدوران كلبه الصغير حوله وحول جثة سبميوني بغروب محتدم فوق ابنية الحي للإشارة لعزلة الحي وعزلة وقائعه .
نجح المخرج في ادارته لحركة الكادر، بأسلوب الواقعية الايطالية التي ازدهرت في فترة الخمسينات والستينات في السينما الايطالية، مما ساعده في ابراز الجانب المخفي من دواخل ابطاله والسير معهم لإكمال اهداف ثيمة الفيلم القصوى .
برع المخرج ماثيو غاروني من الاستفادة من امكانيات الممثل مارسيلو فونتي الادائية والتي رشحته للفوز بجائزة افضل ممثل في ايطاليا وترشيحه للاوسكار عن اداءه لدوره في الفيلم مع ممثلين من امثال ادواردو بيشي و ادامو ديونيزي و فرانشيسكو اكيوراليو و اليدا باليداري ، ومجموعة تظهر لاول مرة على شاشة السينما ، الموسيقى لمايكل براگا كانت موفقة في كسر الجمود الذي اعترى الفيلم في نصفه الاول.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة