عن الخيط الفاصل بين الواقع والخيال
الناقد اندرو محسن
يظن الكثيرون ان التمثيل مهنة سهلة، ينتظر الممثل من هؤلاء في غرفته المكيفة، يقف أمام الكاميرا يؤدي مشاهدة، ينتهي الدور ويأخذ المقابل، يعرض العمل فيحصل على التقدير وحب الجمهور، هل هناك ما أفضل من هذا؟
لكن الأمور ليست بهذه السهولة في الواقع، بالتأكيد يوجد من يتعاملون مع التمثيل كمهنة سهلة، لكن عندما نود ان نتذكر أسماء الممثلين الخالدين لن نجد منهم من كان يستسهل أي دور يقدمه، والحكايات عن تقمص الشخصيات والادوار لا تنتهي عند هذا التقمص والحدود الفاصلة بين واقع الممثل والشخصية التي يؤديها بدور فيلم ‘’ I Act , I Am’’( انا امثل . أنا موجود) للمخرج السينمائي البوسني ميرسولاف مانديشت، الذي يعرض ضمن المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي.
الفيلم هو الروائي الطويل الثالث لمخرجه ومؤلفه يقدم ثلاث قصص منفصلة ابطالها جميعاً من الممثلين الذين تربطهم علاقة عاطفية بطرف اخر، ويبنى السيناريو في القصص الثلاثة على عنصريين رئيسيين، الأول هو ذوبان الحدود الفاصلة بين الشخصية التي يلعبها الممثل او الممثلة وبين حياته الشخصية، والعنصر الثاني هو قصص الحب المرتبكة بين كل ممثل وبين شريكة، وهو في كل مره بقصة جديدة تحمل الكثير من التفاصيل.
في القصة الأولى نلتقي بلينا (لونا زيميتش) الممثلة المبتدئة التي تحصل على دور لصة وتتقمص الدوراكثر من اللازم فتؤذي حبيبها بأفعالها، يؤسس المخرج لما سيفعله في بقية الفيلم، لن نشاهد الفنانين في لحظات نجاحهم، بل اننا لن نشاهدهم اثناء التمثيل الا قليلاً، ولغرض مهم سنذكره لاحقاً.
لا يقدم السيناريو الا ما نحتاجه فقط، ويترك كل التفاصيل التي لا حاجة لنشاهدها على الشاشة لذكاء المشاهد واستنتاجاته، تسرق لينا سيارة، لاحقاً نشاهد الشرطة تقف بجوار السيارة المسروقة بينما لينا وصديقها داخلها يتبادلان القبلات، المشهد التالي نشاهدها في قسم الشرطة تخضع للتحقيقات، لا يهم كيف كانت إجراءات القبض عليها او هل قاومت ام لا، المهم هي النتيجة.
بينما لا تسير الأمور على ما يرام في قصة الحب الأولى، لكنها تبدو الأكثر استقراراً رغم كل شيء نلمح هنا إشارة، تزداد قوة في القصتين التاليتين وهي :- كلما ازددت ابتعاداً عن التمثيل كلما وجدت راحتك في الحياة العاطفية، يبدو ان الحب والفن لا يجتمعان في الفيلم، لا يعاني نيكو (جريجوز زورك) بطل القصة الثانية من نفس مشكلات لينا على المستوى العلمي، هو ليس ممثلاً مبتدئاً بل مشهوراً ويلاحقه المخرجون لصناعة فيلم جديد، لا يعيش قصة في بداياتها بل هو متزوج هذه المرة، لكن هل هذا سيحميه من تأثير الفن ؟
تبدو القصة الثانية هي الأقل اثارة للدهشة، فالممثل المحترف يقرر فجأة ان يعيش حياة المتسولين ويترك عمله وزوجته، يبدو الامر في البداية كأنه يحاول ان يجرب هذا التعايش من اجل شخصية سيؤديها لاحقاً لكنه سريعاً ما يترك حياته الحقيقية ويلتصق بهؤلاء، لكن علاقته بزوجته كانت من العناصر المميزة لهذه القصة اذ يقدم لنا المخرج علاقة تقليدية بين زوجين متقدمين في السن، حياتهما رتيبة الى حد الملل، لكن عندما يختل اتزان هذه العلاقة بسبب تصرفات الزوج، تظهر الزوجة وجهاً اخر يغير مسار الاحداث.
رغم رتابة هذه القصة وعدم وجود مفاجئات وتحولات ذات إيقاع سريع كما في الأولى، لكن المخرج يستخدم هنا مفردات بصرية بشكل ذكي، تتمثل في اللوحات التشكيلية، الزوجة تعمل رسامة، وفي مشهد المصارحة بينهما، يتحدث الزوج عن ملل من الحياة الزائفة التي يحيونها من اجل تلبية رغبات الجمهور، بينما الزوجة تبدو اكثر تعلقاً وواقعية في حوارها، الزوجة تقف امام حائط ابيض اللون، عليه إطارات خالية من اية لوحات، بينما الزوج في الجانب الاخر يجلس امام لوحة ضخمة لمنزل قائم فوق السحب، كل منها يقف أمام المعادل البصري له.
في مشهد سابق نجد احد المشردين الذين يعيش معهم نيكو يعلق على لوحة قديمة معلقة في غرفته، ويسخر من الفن التشكيلي ومتذوقيه على حد سواء.
القصة الثالثة هي الأكثر دخولاً في عمق فكرة التعلق المرضي بالأداء، يتضاعف الامر هنا، فالشخصية الرئيسية لوكا (جوران بودجان) هو ممثل متعلق بممثلة ايضاً ايفا لانا باريتش)، لوكا يمثل احد الأدوار مع ايفا ويقع في حبها، ويظنها هي ايضاً تبادله نفس الحب لكنها تصده، في هذا الفصل الأخير من الفيلم يتلاعب المخرج بالمشاهد الى اقصى درجة، بينما تظل الحدود الفاصلة بين واقع الشخصيات ومهنتها واضحة على الشاشة امام المشاهد، يكسر المخرج هذا الوضوح في هذه القصة الأخيرة، في احد المشاهد نتابع حواراً بين البطلين لنفاجا لاحقاً بأنه ليس الا مشهداً تمثيلياً داخل الفيلم الذي يصورانه، يحسب للمخرج ميرسولاف مانديتش ذكاء اختيار الوقت المناسب لمثل هذا المشهد اذ كان من الممكن في عمل مثل هذا استخدام هذه الخدعة، غير الجديدة والمستخدمة بالفعل في بعض الاعمال الكوميدية، لكنه عندما ارجأها للنهاية جعل وقع المفاجأة على المشاهد أكبر .
قصة الحب هذه المرة هي الاعقد، اذ ان كلا الممثلين لديه شريك بالفعل، لكن ليس هذا فقط ما يجعلها مميزة داخل الفيلم، بل على عكس القصتين الأوليين، نجد هنا ان الممثل يخرج من دوره متأثراً بالشخصية التي أداها مما ينعكس على حياته، وليس تحضيره للشخصية هو ما يجعله ينخرط فيها على حساب حياته، يضاف الى هذا وجود المقابل لشخصيته، وهي إيفا التي شاركته في الدور والتمثيل، لكنها انتهت من الشخصية وبدأ في غيرها بمنتهى السلاسة، ليس كل دور يبتلي صاحبه، بل هو اختيار في النهاية .
يستغل المخرج أماكن التصوير بشكل جيد طوال الفيلم، وهو ما يظهر في هذه القصة الأخيرة، فهو يعيد استخدام نفس المكان الذي نشاهده فيه لوكا وإيفا للمرة الأولى في مشهد لاحق، لكن تغيير حجم اللقطة في المرة الثانية عندما كان لوكا بمفرده، بجعلها لقطة بانوراميه أكثر اتساعاً اعطى معنى مختلفاً .
فكرة تعدد القصص داخل الأفلام مع وجود خيط رئيسي يربط بينهما ليست جديدة، شاهدناها في المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في الدورة 37 مع الفيلم الكرواتي «The High Sun « الشمس العالية الذي حصل على جائزة الاسهام الفني آنذاك، ولكن الاجادة هي في القدرة على الحفاظ على إيقاع كل قصة، وجعلها مرتبطة بالبقية ليس فقط من حيث الموضوع، بل على المستوى البصري ايضاً، وهو ما حافظ عليه ميرسولاف مانديتش، حتى انه صنع تصاعداً واضحاً بين القصص الثلاثة رغم انفصالها ليصل الى ذروة فكرته مع القصة الثالثة.
*هذه المادة نشرت في النشرة الدورية لمهرجان القاهرة السينمائي