الناقد – أحمد شوقي
على مدار أربعة أفلام روائية طويلة سابقة تمكن المخرج أحمد عبد الله السيد من تأسيس اتجاه سينمائي عام وخاص، فعلى المستوى العام هو المخرج الأكثر نشاطا فيما يمكن تسميته بالسينما المستقلة أو المغايرة أو الموجة المصرية الجديدة، لم يصل أحد من مخرجي الموجة الى الفلم الخامس إلا من حول بوصلته نحو الصناعة السائدة، على المستوى الخاص ظل لعبد الله هوسا دائما بالتجريب، يمزج العناصر الروائية بالتسجيلية ويصور أفلامه دون سيناريو في « هليوبولس» و» ميكرفون» يصنع فلما بالإسود / أبيض في « ديكور» وغيرها من أشكال التجريب المستمر.
ورغم قيمة هذه التجارب في مسار السينما المصرية، الا ان وضوح التجربة ظل دائماً يقف بين الفيلم والمتلقي، بمعنى انه حتى أكثر المعجبين بأفلام عبد الله كان لابد
وأن يمر للفيلم من بوابة التجربة، لا بد وأن يفكر فيها ويضعها في اعتباره
عند تقييم الفيلم، حتى أن الإنجاز البصرى في (( فرش وغطاء )) –
على سبيل المثال – قد تشابه ضرورة التفكير في التكنيك السردي بالإخفاء
المتعمد للحوار، أو بصياغة أخرى كانت جرأة المخرج تدفعك دفعاً
لأن تفكر فيما تراه باعتباره تجربة مدخلها هو الأسلوب، وحتى لو أردت أن تحيد هذا وتنظر للفيلم كفيلم . كان هذا من الصعوبة بمكان.
في فيلمه الخامس (ليل / خارجي) الذي يمثل السينما المصرية في المسابقة الدولية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي الأربعين، يتمكن أحمد عبد الله أخيراً في اسقاط الحاجز بين الشكل والمضمون , بين التجربة والفيلم، ليصنع أكثر اعمالاً كلاسيكية وأكثرها طرافة وعمقاً وقرباً من القلب .
ثلاث شخصيات … ثلاثة عوالم
لا يعنى ما سبق أن صناعة (ليل / خارجي) تخلو من التجريب.
فالحقيقة أن انتاج الفيلم دون وجود جهة إنتاج تمتلك ميزانية كافية،
ودون السعي لجمع مصادر تمويل معتادة من صناديق الدعم، والاكتفاء بالجهود الذاتية والعمل بأقل التكاليف دون تنازل عن جودة الصورة , هي في حد ذاتها تجربة تستحق الإشارة والاشادة – لكن الأهم هنا تبقى خلفية العمل , مجرد معلومات قد يعرفها او لا يعرفها المشاهد , وله حرية الانشغال بها أو تجاهلها لحساب فيلم متماسك وممتع وثاقب النظرة، بصرف النظر عن سياقه الإنتاجي أو أي معلومات أخرى عن كواليس صناعته .
تبدو قصة الفيلم بسيطة: لقاء عابر ترتبه الظروف تبين مخرج شاب يحلم بتقديم فيلمه الثاني (كريم قاسم) وسائق تاكسي (شريف دسوقي) وفتاة ليل (منى هلا) تتضافر الظروف والرغبات وصراعات القوى لتدفعهم لقضاء ليلة معاً في شوارع القاهرة لتمثل العلاقة بين ثلاثتهم ميكروكوزم أو صورة مصغرة لديناميات القوة في مجتمع العاصمة المصرية.
المخرج محمد أو مو، خريج الجامعة الامريكية المنشغل بهواجس فنية ومشكلات عدم تحقق مدينة يصعب ان تقتصر مشكلاتك فيها على الأفكار المجردة.
السائق مصطفى بما يجتمع داخله من متناقضات يعرفها كل مصري: الخبث والشهامة والفخر الذكوري والطيبة التي تصل احياناً للسذاجة، والعاهرة توتو التي تفتقر حتى لذكورة مصطفى، فهي من هامش الهامش (امرأة فقيرة تمارس عملاً غير مشروع)، وبالتالي فسلاحها الوحيد هو ذكاؤها وقدرتها على التعامل مع المواقف، تارة بالغواية وأخرى بالضعف والاستكانة.
السيناريو الذي كتبه شريف الألفي لا يخفى أن كل شخصية تمثل شريحة كبرى من المجتمع المصري , بل يطرح هذا الجدل للنقاش باستمرار من خلال الحوار بين الشخصيات وموجات الانقباض والانبساط التي تواكب صراع القوى بين الرجلين من لحظة لقائهما حتى نهاية الفيلم . لكن بناء الحكاية والشخصيات يجعل من اليسير تقبل هذا الطرح الفكري دون ان يعيق المشاهدة والاستمتاع: ربما لأننا نخوض هذا النوع من المواجهات الطبقية والجندرية المستترة بشكل يومي وإن لم يكن بنفس الحدة، أو لأن الإيقاع المتصاعد للأحداث وطرافة الشخصيات وما تتعرض له تجعلنا نتفهم أن يخوضوا هذا النوع من النقاشات، ففي مواجهات كهذه من المنطقي أن يلوذ كل أنسان بمنظومة دفاعية ما هي بالضبط ما احتاجه صناع (ليل / خارجي) لصياغة فيلمهم الشيق.
قيمة اللحظة والبحث عن السحر
يمكن تلخيص مهنة الإخراج – على الأقل تقنياً – في محاولة دائمة للعثور على افضل العناصر، ومزجها معاً من اجل صناعة لقطات فلمية لا يكفى أن تحمل رؤية المخرج ووجهة نظره، بل يجب أن تحقق بعض لحظات من السحر، من المتعة الخالصة التي تشعر عندها بأنه لا احد يمكنه أن يصنع هذه اللحظة بذلك الشكل سوى صاحبها , وهو الهدف الذي ينجح أحمد عبد الله بشكل لافت ان يبلغه في عدة لحظات على مدار فيلمه يمكن اعتبارها وحدها سبباً كافياً للأعجاب بالفيلم .
البداية مع التوفيق الشديد في اختيار الممثلين : الذين لا يكفى ان يكون كل منهم موهوباً بشكل مجرد، بل يجب ان يتوافر هذا القدر بين ثلاثتهم، او للدقة بين الأربعة ، بإضافة أحمد مالك الذي يواصل اخذ خطوات واسعة يثبت فيها انه الامل الحقيقي لفن التمثيل في مصر، هذه المرة يلعب شخصية جديدة تماماً عن السينما المصرية، رغم انها صارت موجودة بكثافة بين الأجيال الشابة في المناطق الشعبية – شخصية تبدو نافرة ومستقلة بعالمها، رافضة للتناغم الحاكم لمدينة مجنونة كالقاهرة , وكأنها في كل لحظة تبشر بمواجهة اتية لا ريب , سيكون من الحتمي فيها ان ينكسر أحد الطرفين – جيمى او القاهرة – وينصاع للأخر .
العنصر الثاني الموفق كان التصوير , والذي يقوم به المخرج بنفسه هذه المرة . فأحمد عبد الله هو مخرج ومدير تصوير الفيلم في قرار راديكالي ربما ارتبط بأسباب إنتاجية: أن يتم التصوير بكاميرا خفيفة من نوع كانون، لكنه اسفر في ظل الاختيار الجيد لمواقع التصوير والاستفادة من خليط الألوان والاضواء المميز لليل القاهرة في خلق صورة طازجة للمدينة , حتى في الأماكن التي قتلت تصويراً مثل المراكب النيلية , يظل (( ليل / خارجي )) قادراً على تقديمها بصرياً بشكل جديد ومشبع .
إلا ان افضل العناصر على الاطلاق هو شريط الصوت، الذي ينطلق عبد الله فيه من نفس المنطق الحاكم للصورة: المزيج الصاخب الذي تجتمع فيه العشوائية بالرقة بجماليات الكيتش وقبحه في ان، والذي يصيغه المخرج بشكل خلاق عبر توظيف مجموعة ضخمة من الأغنيات والاصوات: ام كلثوم وانشاد ديني وأغاني مهرجانات وأصوات شجار واحتفالات وصخب سيارات ورنات هواتف محمولة، عالم صوتي كامل نعيشه يومياً دون ان نلتفت لتفاصيله، ليأتي أحمد عبد الله لنا بها ويستخدمها في صياغة لحظاته من السحر ,
نصل للنهاية بالإشارة لهذه اللحظات التي لا تنسى كل من سيشاهد (ليل / خارجي) في عروضه المقبلة سيكون من الصعب ان يخرج من ذهنه مشاهد مثل الزفاف النيلي، ووصول جيمي على دراجته النارية والعشاء في المطعم الشعبي، مشاهد قد تبدو لو قرأتها على الورق جيدة على الأكثر، لكن الفارق بين ما يسرده المشهد وشكل هذا السرد هي مساحه الابداع التي ملأها أحمد عبد الله السيد كما لم يفعل من قبل : ليستحق (( ليل / خارجي )) الاستقبال الجيد الذي ناله من جمهور تورنتو , في انتظار ان يشاهده سكان المدينة التي يحتضن ليلها وشوارعها احداثه .
- المادة نشرت في النشرة الدورية لمهرجان القاهرة السينمائي.