ذكرياتي.. فاروق مصطفى رسول

تواصل “الصباح الجديد” نشر كتاب “ذكرياتي” للمناضل العراقي الكبير فاروق ملا مصطفى، ويعد هذا الكتاب الحلقة الثانية ضمن سلسلة تهدف الى استعادة تاريخ النضال السياسي اليساري في العراق خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، ويعد الأستاذ فاروق أحد الرموز اللافتة والمثابرة في مجال المعارضة السياسية للدكتاتورية والعمل من أجل عراق ديمقراطي متنور مزدهر.
وتعود معرفتنا بالأستاذ فاروق الى عقود طويلة منها سنوات العمل المشترك ولو عن بعد، في حين حفلت تلك العقود بلقاءات متعددة، منذ بداية مشاريعه الناجحة، عندما كنت مندوباً عن صحيفة الحياة اللندنية، وسمح لي الحظ أن أرافق خططه المبكرة لواحدة من ألمع التجارب الاقتصادية والتجارية في البلاد، والمتمثلة بتأسيس الشبكة الدولية للهاتف النقال التي تحولت الى شركة كبرى هي آسيا سيل وكان حلمه آنذاك أن يكون لكل مواطن في كردستان هاتف خاص به في وقت كانت فيه تجربة الهاتف فتية على المجتمعات المتقدمة وغير المتقدمة وكنت قد أسهمت في نشر الروح المقدامة للأستاذ فاروق وجرأته التي ارتكزت الى تجربة ممتازة في مجال المشاريع المختلفة، بدءًا من صغيرها الى كبيرها، والتي انتهت الى اسهامات يذكرها كل مواطن في إقليم كردستان وخارج إقليم كردستان.
ومن المزايا المهمة التي اشتمل عليها نشاط الأستاذ فاروق، أنه حاز ثقة العالم الصناعي الامر الذي سمح له بالتوسع والانتشار الى قطاعات أخرى كبناء المستشفيات وانشاء جامعات طبية ومتخصصة وهو ما نحتاج إليه أشد الحاجة.
كما تميزت تجربة الأستاذ فاروق في انقاذه مشاريع كانت على وشك الاندثار، كمؤسسات ومعامل السمنت في الإقليم، الامر الذي أسهم في توفير فرص عمل لمئات المواطنين وتوظيف آخرين بمناصب لإدارتهم، في الوقت الذي كانت الدكتاتورية تعاصر شعبه وتهمل المدن والمؤسسات والبشر.
وفوق كل ذلك ارتفع فاروق الى الأعلى، بسلوكه الثوري الإنساني الذي عاد على العديد من اقرانه وأصدقائه ومواطنيه بالفائدة والدعم من دون أن تكون له منافع شخصية، او اهداف من قبيل نشر الدعاية الخاصة لشخصه ومؤسساته، وهذا انعكس أيضاً على الطبقة السياسية التي وجدت فيه داعماً مرموقاً ومعتمداً ومسهماً في المناسبات التي أتيحت له المشاركة فيها.
وإذ تنشر “الصباح الجديد” صفحات مشرفة لهذا المناضل، فلأنها تعد أنموذجاً للوطنية والمثابرة وحب الوطن والمواطنين.
ولا يمكن أن نتخيل مدينة السليمانية الآن بالذات، وهي المدينة التي أحبها وعشقها من دون أن نتذكر او يخطر في بالنا اسهامات فاروق وفضائله الكبيرة على مدينته، الأمر الذي يجعله موضع حب واحترام واسعين.
هذه الذكريات، انموذج للكفاح الذي أثمر أفضل ما يمكن أن يتخيله إنسان في مجال النضال الشاق والغابة السياسية المليئة بالألغام والامتحانات الإنسانية الكبيرة والقاسية.
ان تجربة الأستاذ فاروق تمنح القارئ بتفصيل ممتع نكهة الحياة والشرط البشري الذي كان عليه أن يرسمه لمجايليه وللأجيال المقبلة.
بهذه المناسبة نود أن نعبر عن امتنانا واحترامنا للتجارب التي مر بها الأستاذ فاروق ونأمل ان يشعر القارئ الكريم بالشيء نفسه.

الحلقة 10

السبعينات والترحال ما بين الاختباء والعمل السري

مرة أخرى إلى سوريا ولبنان- صيف 1973
انطلقت هذه المرة مع الرفيق (عه زه ره ش) مشياً على الأقدام. ووصلنا زاخو خلال بضعة أيام.
سلمني الأخ إدريس البارزاني رسالة إلى (عيسى سوار) في زاخو ليعيننا في عبورنا إلى سوريا. قدم عيسى سوار مساعدة بسيطة إلينا، نادى (بهجت) وهو من مقاتلي البيشمركة وقال له أن يستأجر لنا سيارة على حسابنا لتوصلنا إلى فيشخابور ومن هناك إلى سوريا، وقال له لتكن هوية السائق معروفة لديك.
وانطلقنا ليلاً بسيارة عتيقة رديئة، كان لزاماً علينا الوصول والعبور إلى الجهة الأخرى قبل انبلاج الفجر لئلا يرانا ويكشفنا المخفر العراقي القريب. في الطريق انفجر أحد إطارات سيارة الجيب، نزلنا لاستبداله فألفينا أن السائق ليس لديه مفك (ويل اسبانة) كان لديه بلايس كبير، وبمشقة وتعب فككنا براغي الويل واستبدلنا الإطار.
لما وصلنا مياه فيشخابور كانت الدنيا مغبشة. وهكذا صعدنا قوارب صغيرة نحو قرية (خانك)، ومن هناك إلى قامشلو ووصلنا دمشق بعد يوم آخر.
إضافة إلى لقاء الرفاق والعمل لترشيح بعض الأشخاص للمشاركة في مؤتمر الحزب على مستوى العراق هذه المرة، كان الرفاق يسعون للحصول على جواز سفر لي بهدف ترتيب سفر حزبي إلى ألبانيا.
وطلبوا من الجبهتين (الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) و(الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) المساعدة في تدبير جواز السفر، وهو ما يتطلب بعض الوقت لذلك طال مكوثي في بيروت والشام أكثر من المرة السابقة.
المسافة بين بيروت والشام بقدر المسافة بين السليمانية وكركوك (110كم) وتكررت تنقلاتنا بين بيروت والشام. كان صديقي الرفيق إبراهيم علاوي خارج العراق لشؤون حزبية. احتفظنا بعلاقات طيبة مع رفاق (اليمن الجنوبية) (حكومة اليمن الديمقراطية الشعبية) وحزيها الاشتراكي وقادته عبد الفتاح إسماعيل، وسالم ربيع علي المعروف بـ(سالمين) وعلي ناصر، زودونا بمختلف أنواع الأسلحة وكان الفلسطينيون يدعموننا في إيصالها إلى بيشمركة حزبنا في كردستان، وزعنا عدداً كبيراً منها على تنظيمات الحزب في وسط وجنوب العراق. كان حزب الجبهة الديمقراطية اليمنية يتبنى الاشتراكية والفكر الماركسي – اللينيني.
حدث تحولان كبيران في سوريا واليمن ألحقا أكبر الأضرار بنا، سقوط جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية أو اليمن الجنوبية، والآخر هو تغيير حكومة نور الدين الأتاسي ويوسف زعين في سوريا. أفرز هذان الحدثان تأثيرات سلبية علينا، لأن الطرفين كانا يدعماننا كثيراً في السفر وتسهيل المرور والتدريب العسكري إضافة إلى التقارب الفكري الموجود بيننا وبينهم (حكومةً وحزباً) بخاصة في الإيمان بالاشتراكية
والديمقراطية، وكان تقييمهما للتعاون والتضامن مع القيادة المركزية لصالحنا ولصالح الحركة الثورية في العراق.

  • * *
    ذات يوم زرت مع مظفر النواب، الذي كان عضواً معروفاً معنا، قيس السامرائي الشخصية الثانية في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بعد نايف حواتمه. سبق أن زرت قيس السامرائي في بغداد، كانت هذه الزيارة جزءًا من تفقدنا الأحزاب والمنظمات المختلفة في الساحة السياسية.
    قلتُ لقيس: سبق أن التقينا في بغداد في اجتماع للأحزاب والتنظيمات. قال: ولأي مناسبة كان الاجتماع؟ قلت له: كان ذلك عقب الحرب بين العرب وإسرائيل عام 1967 من أجل تأييد الثورة الفلسطينية، باستثنائي أنا اتفق المجتمعون نحاول أن نحصل على إجازة بتأسيس منظمة أو جمعية لدعم الحركة الثورية الفلسطينية، باسم شخصيات شيوعية واشتراكية ومن القوميين العرب، وجاء ذكر أسماء صفاء الحافظ وإبراهيم علاوي، وخير الدين حسيب، أنا فقط من بين الحضور قلت، لا يمكن بأي شكل من الأشكال تحقيقه وتنفيذه ولا تمنحنا الحكومة إجازة بأسمائنا وأسماء تلك الشخصيات المعروفة. فقال قيس السامرائي مستغرباً، يعني إنك تريد أن تقول لقد دار بخلدك أن نطلب الإجازة من الحكومة العراقية، معقول! كلا إنني لم أقل شيئا من هذا القبيل! فقلت له ضاحكاً: أجل كنا أنا وفائق بلي و د.صباح الـدرة حاضرين في الاجتماع الذي عقد في منزلكم!
    حين خرجنا قلت للرفيق مظفر النواب: من الأجدى ألا ننتظر أي وعد من أمثال هذا الرجل!
    والتقيت بـ(محسن إبراهيم) سكرتير حزب العمل اللبناني، وكتبت في صحيفته (الحرية) مقالاً عن حقوق الشعب الكردي.
    في فترة انتظار استكمال جواز السفر، حدد لي وللأخ شهاب شيخ نوري، موعد من جهتين مختلفتين قرب منطقة الروشة في بيروت، انتظرنا هناك. توقفت أمامنا سيارة مرسيدس قديمة، وركبنا، كان فيها الشهيد الدكتور وديع حداد وكان آنذاك الشخصية الثانية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وبعد مسير نصف ساعة، سلمنا الدكتور وديع جوازي السفر.
    في بيروت والشام قضينا أنا والأخ شهاب وقتاً ممتعاً بالحديث عن السفر وذكريات السليمانية. كان محبوباً وطيب المعشر. تقدمي من الأعماق، وأحب الحركة الشيوعية. قدم مام جلال إلى الشام. ذات يوم دعانا للغداء. قال في حزن وضجر، كنا جالسين مع عشرة إلى خمسة عشر شخصا، ومنهم مظفر النواب الذي بالكاد عرفني! قلت إنه شاعر وربما شرد خياله وذهنه. سأدعوكم الليلة إلى مأدبة وأجعله يقدم اعتذاره لكم، إنني موقن إنه يحبك كثيراً.
    وفي منزل أحد أصدقائي راح مظفر يقرأ الشعر ويغني بصوته الشجي حتى الهزيع الأخير من الليل. قضينا ليلة ممتعة للغاية. إضافة إلى الأخ شهاب، حضر معنا تلك الليلة شاسوار شيخ جلال (الشهيد آرام)، العائد من ألمانيا بعد انتهاء مهرجان الشباب هناك، وفي طريق عودته إلى بغداد عرج على الشام. ومن رفاقنا الذين حضروا تلك الليلة، الرفيق الدكتور سليمان اللوس، والرفيق الدكتور فخري الغزالي.

من سوريا إلى ألبانيا
غادرت الشام بالطائرة إلى فيينا في تشرين الأول 1973، استقبلني ابن عمي وصديق طفولتي (فؤاد ملا محمود) في مطار (فيينا). وكان لذلك اللقاء نكهة خاصة جداً نظرا لأننا لم نلتق بعضنا منذ أكثر من سنتين. قضينا أياما وليالي رائعة وما زاد من روعتها حضور الأخ نوشيروان مصطفى الذي كان يدرس الدكتوراه وقتذاك.
كان بيننا أنا ونوشيروان مصطفى ودٌ وصداقة منذ مرحلة المتوسطة والإعدادية، كان اتجاهي الحزبي والفكري مختلفاً عنهما لكن الفكر والثقافة والحس الوطني والإخلاص والصداقة اختصرت المسافات بيننا.
حين هبطت من الطائرة أثار شيئان ضحك فؤاد وضحكي أيضاً. قال لي خيال لنذهب ونتسلم حقيبتك. ضحكت وقلت ها هي حقيبتي أحملها بيدي. قال: أقصد حقيبة ثيابك. قلت: هذه هي كل ما أملك! حملتها معي داخل الطائرة وتحتوي على منامة وأدوات الحلاقة وقميصين وبنطلون واحد. فقال لي: هل جئت إلى (كَلاله) أم إلى فيينا!! كانت الحقيبة نفسها التي كنت أحملها على ظهري في جولاتي السياسية وخارج المدينة وفي حياة كفاحنا الثوري تلك السنين.
والشيء الثاني، عندما سألني كم تحمل من النقود؟ قلت: عزيزي فؤاد لديّ ما يكفيني، سأبقى ثلاثة أيام لديك وحسبت حساباً دقيقاً لمنامي وأكلي وشربي، بالتأكيد لا يقبل ابن عم وصديق مثلك أن استعمل ما في جيبي. أملك مائة دولار ولدي بطاقة الطائرة من بلغراد إلى تيرانا. تعجب واندهش، قطع لي بطاقة السفر من فيينا إلى بلغراد، ودعني، وانطلقت إلى (بلغراد) عاصمة يوغوسلافيا.
وفي الصباح اتصلت بقنصلية ألبانيا، منحوني بطاقة الطائرة وودعوني إلى تيرانا عاصمة ألبانيا.
كم كان نزولي في تيرانا حدثاً رائعاً وتاريخياً بالنسبة إلي، ها أنا أجد للمرة الأولى حزباً شيوعياً أوروبياً أقارنه بالقيادة المركزية لدينا، لقد قللت من حدة معاناتنا من معاداة التحريفيين لنا في علاقاتنا الحزبية الأممية.
اتسع الفكر والخط السياسي للحركة الشيوعية في العالم لتيارات مختلفة بارزة عدا التيار السوفيتي الذي اعتبرناه يمينياً تحريفياً، وأثبت التاريخ صحة وسلامة تقييمنا وتقييم الأحزاب الأخرى له، تطور تيار ماو تسي تونغ الذي عرف بالماوية في العالم قاطبة. اختلف التيار الثوري لألبانيا بقيادة أنور خوجه بدوره الواضح عن تيار ماو تسي تونع. جيفارا وتنظيرات ريجيس دوبريه لفكره عن “الثورة في الثورة” أصبحا رمزين كبيرين للشيوعية والثورية في العالم. اقتربنا نحن- القيادة المركزية- مع خط ماو ومن ألبانيا. ذاق الحزب الشيوعي العراقي مرارة الذيلية والتبعية والطاعة العمياء. تمتعت ألبانيا في عهد أنور خوجه، بحرية واستقلالية عن خط وتيار الماوية الصينية، وأصبحت مثالاً وشعلةً جديدة للحركة الشيوعية العالمية. أحد التقييمات الصحيحة والإيجابية لعظمة الثورة وفكر حزب العمل الألباني هو تحرير ألبانيا بالثورة والمقاومة ضد ألمانيا وإيطاليا المحتلتين، وليس عن طريق الجيش الأحمر السوفيتي مثلما وجدناه لدى أغلب بلدان أوروبا الشرقية.
في غضون ثمانية أعوام من حياة الاختفاء والكفاح الثوري في الجبال، اتيحت لي بشكل رسمي فرصة ثمينة من قبل حزبنا، حيث أرسلت أو دعيت إلى ألبانيا في
زيارة استغرقت شهراً للاجتماع مع قيادة حزب العمل الألباني والاطلاع على تجربتهم عن كثب.
في المطار استقبلني الرفيقان (بيرو) و(آكيمي) عضوا المكتب السياسي لحزب العمل الألباني. كان بيرو وزيرا للخارجية الألبانية وترك الوزارة ليتفرغ للعمل الحزبي. اتبع حزب العمل الألباني بقيادة أنور خوجه نظاماً خاصاً أوجب على كل ملاك حزبي أن يعود في كل سنة شهراً إلى عمله السابق، أي العودة إلى مركزه الوظيفي السابق بعد تسنم منصبه الجديد في الحكم. كان محمد شيخو رئيس مجلس الوزراء يعود في كل عام شهراً إلى عمله السابق، أي إلى مزرعة عمل فيها سابقاً.
ألبانيا كانت الدولة الوحيدة التي تم حظر الدين فيها. قبل ذلك كان معظم المواطنين مسلمين ومارسوا الطقوس الدينية مع أقلية مسيحية. أحالوا أغلب الجوامع والمساجد والكنائس إلى مدارس ومستشفيات ومتاحف. ارتكبوا خطأً فادحاً من هذا الجانب لأن منع الدين عنوةً وقسراً يخلف تأثيراً سلبياً.
نزلت في مضيف حزبي بدلاً من الفندق وقالوا إن حزباً إيرانياً حل ضيفاً هنا، كان جلهم أطباء ودكاترة، توقعت رأساً أنهم كانوا رفاق (المنظمة الثورية لتوده إيران) وما تزال ذكرياتهم خالدة، الدكتور جلال والدكتور إبراهيم وإسماعيل.. إلخ.
كان الألبان يفتخرون كثيراً ببطلٍ وطني لهم أقاموا له نصباً في أجمل ميـادين تيرانا، وهو يمتطي صهوة حصان ويمتشق سيفاً. دام الاحتلال العثماني لألبانيا أربعمائة سنة، وفي الأخير استطاع إسكندر بيك تحرير ألبانيا وتوحيدها في غضون خمسة وعشرين عاما من النضال والكفاح.
كنت في ألبانيا عندما اندلعت نيران الحرب بين العرب وإسرائيل في 5/6/1973، في أواخر أيام زيارتي التي أفادتني كثيرا من الناحية الفكرية والسياسية، واستمعت خلالها إلى محاضرات للرفيق (أكيمي) الذي كانوا يسمونه فيلسوف الحزب. وزرت عدداً من المدن، مثل (شكودرا) و (دوريس) وشاهدت بعض القرى والأرياف التي أثبتت فعلاً أن الفروق بين المدن والقرى يمكن أن تزول بوجود مراكز الدراسة والخدمات الطبية والعمل والمشاريع الخدمية كالماء والمجاري والكهرباء فيها، وهذا جريا على تنفيذ نهج اشتراكي وفكر ماركسي- لينيني.
بعد انتهاء مدة سفري عدت عبر بلغاريا إلى تركيا ومنها إلى سوريا فالشام (دمشق). أتذكر في صوفيا عاصمة بلغاريا التقيت جلال مظهر مصادفة، بعد التعارف قلت له لدي مشكلة كبيرة في السفارة التركية في صوفيا، إنني أنوي العودة إلى الشام عبر تركيا لكنهم لا يمنحونني تأشيرة الدخول ويقولون لا علاقة لنا ببلدكم. قال جلال، وكيف ذلك؟ فأعلمته باني أملك جواز اليمن الديمقراطية وليس جوازاً عراقياً. عالج الأخ جلال الأمر ببساطة، عاد معي إلى القنصلية التركية وقال لي أنا ماهر في شؤونهم وأعرف أماكنهم وشعبهم، أشار إلى موظف وقال لي حاول أن تلهي هذا الرجل بالكلام، وكان ختم الفيزا على منضدة بجانبه، وقال سأختم الجواز بهذا الختم، وأنا أعرف أشكال وأنماط تواقيعهم. هكذا عالج مشكلي وأسدى إلي خدمة كبيرة لا تنسى.
وتبين لي في هذه الزيارة، إنني السياسي الكردي الوحيد الذي يزور ألبانيا وسجلت ذلك في دفتر ملاحظات الزوار في أحد متاحف تيرانا.

نكسة ثورة أيلول 1975
قضيت حياتي منذ أواخر عام 1968 حتى مطلع ربيع عام 1975، بين الاختفاء والعمل الحزبي السري، في السليمانية، وكركوك وأربيل. تستحق كل ذكرى من هذه الذكريات الرفيعة في قرداغ وكرميان وسفوح بمو، وكوركازاو، ووادي شهيدان، وسفر وزرون و شاخه رەش، وناوكيلكان وكويزان، وثاوبردان، وقسري، وديلمان، أن أكتب عنها قصة كاملة.
في السنوات التي كنت فيها في منطقة بالك، استقرت معظم مراكز ومقرات قيادة ثورة أيلول والسياسيين الكرد في تلك الأطراف، وكنت مسؤولا عن العلاقات بـين الحزب الشيوعي العراقي – القيادة المركزية، والحزب الديمقراطي الكردستاني، وعليه عرفت أغلب سياسيي تلك الأيام وشاهدت بنفسي الأحداث كافة.
مرت الثورة الكردية وقتذاك بمرحلة حساسة جداً. وجرَّ اتخاذ الموقف منها وتقييمها، كثيراً من الناس والأحزاب والدول إلى دوامات وإشكاليات فهم تلك المعادلات التي تشكل منها الوضع السياسي آنذاك. لم تكن للثورة رؤية واضحة، لنقل على نحو أدق لم يكن أمامها أفق واضح معين، تعددت الأسباب والعوامل التي منعت القيادة السياسية من التمكن من تفسير وتحليل الوضع السياسي الداخلي المعقد الذي كانت تواجهه.
وعزا بعض المؤرخين والكتاب أحد أهم الأسباب المؤدية إلى إخفاق الحركة الكردية، إلى غياب الدبلوماسية، وفسروا عدم اهتمام القوى العالمية العظمى بالقضية الكردية بجهل الساسة الكرد وعدم إدراكهم كيفية إنشاء العلاقات والتعامل مع القوى العالمية المتنوعة، واستخلص هؤلاء الكتاب أراءهم من النتائج التي آلت إليها السياسات المتبعة، وعدوا نجاح أو إخفاق الثورة وعدم تحقق طموحاتها وأهدافها دليلاً على ذلك.
سأسرد هنا بعض الذكريات وأسلط الأضواء على جوانب من ثورة أيلول بخاصة حول إخفاقها ونكستها الكبرى في آذار 1975.
إن دراسة الانتصارات خطوة خطوة، وكذلك الخطوات الصحيحة والخاطئة تلقي الضوء على طريق المستقبل وتساعد على رسمه، وتردم ثغرت الأعمال الناقصة وغير المكتملة. ويعين التحليل” والدراسة النقدية الحركات والأشخاص مستقبلاً في حالة نمو وظهور ظروف سياسية مماثلة أو شبيهة بما ظهر في الماضي، بالأخص لمن يريدون استقاء العبر من تجاربهم الماضية أو من تجارب الأمم الأخرى.

  • * *
    بعد الحرب العالمية الأولى قسمت وجزأت الدول الإمبريالية العظمى، كردستان وفقاً لمصالحها المشتركة على دول الإقليم في المنطقة، العراق، وتركيا، وإيران، وسوريا.
    ففي حساباتها وضعت الأنظمة والدول الرأسمالية العالمية مطالب الكرد لتأسيس كيان قومي في مقابل موقف الحكومات العراقية والتركية والإيرانية والسورية الرافض لهذه المطالب، فرجحت الثانية، لأن أهمية مصالحها مع تلك الدول الإقليمية تفوق الحقوق القومية المشروعة للكرد، لذلك فرضوا التقسيم على كردستان.
    ومنذ ذلك الوقت وتلك الدول الإقليمية الأربع، تعد القضية الكردية خطراً مشتركاً، فاتفقت معاً على عرقلة وإحباط الثورة الكردية، وإذا التفتت دولة أو دولتان منها إلى المسألة الكردية فأنها كانت لاستغلال الكرد وقضيتهم العادلة في سبيل مصالحها ولتسخيرها ضد خصومها وأعدائها، وفي النتيجة اتفقت على حل الخلافات فيما بينها بإخماد الثورة الكردية وجعل الكرد ضحية في هذا الصراع، والأمثلة لهذا كثيرة لا حاجة بنا إلى الإشارة إليها.
    اتهم رجال الإنكليز وخدمه السابقون وبعض المؤرخين والقراء السذج، الشيخ محمود الخالد بجهله في أسلوب التعامل مع الإنكليز، واعتبروا هذا سبباً حال دون تثبيت (حكومة كردستان الجنوبية) في ظل راية الإنكليز، مما أدى بها إلى الانهيار.
    ليس هذا نقداً خاطئاً فقط لكيان حكومة الشيخ محمود بل يعد إجحافاً سافراً وجائراً بحقه. ولا يخفى أن الشيخ لم يكتف بطلب العون من الإنكليز فقط، بل استغاث بالحكومة السوفيتية لتسعف الشعب الكردي، في وقت لم تمض سنتان بعد على ثورة أكتوبر، ولكن لم يكن في ذهن الإنكليز وسياستهم إنشاء دولة كردية أو تقديم أي شيء للكرد. كان بإمكانه أن يستقدم أحداً من الكرد الموالين لسياسة الإنكليز، وهم كثر، ويسلمه زمام حكم وإدارة كردستان مثلما منح بعضهم مناصب ومراكز مهمة في وزارات وهياكل الحكومة العراقية.
    انظر إلى الزعيم الشهيد قاضي محمد فقد أراد أن يستغل الدوامة والظرف المضطرب ومستجدات الوضع الدولي في المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية، فأعلن دولة كردية (جمهورية مهاباد أو جمهورية كردستان)، لكن تفاقم الأزمات واضطراب الوضع آنذاك ومصالح القوى العالمية العظمى في المنطقة أغرقت الجمهورية في الدماء واختار رئيسها قاضي محمد الطريق إلى ساحة الإعدام بنفسه.
    وهذا هو ملا مصطفى البارزاني، طيلة سنوات قيادته للثورة الكردية لم يبق باب لم يطرقه ولا حكومة لم يرتبط بها بحثا عن سند قوي وملاذ آمن لثورته واستمداد العون المادي والتضامن السياسي.
    صحيح إن العوامل الداخلية لتأسيس وتقوية ونجاح أي حركة أو ثورة في نهاية المطاف هي العامل الرئيسي فيها، لكن العوامل الخارجية في بعض الأحايين تؤدي دوراً مؤثراً سواء أكان سلبياً أم إيجابياً.
    لم يكن من مصلحة القوى العظمى إلى اليوم ضمان وتوكيد استقلال ووحدة أرض كردستان المحتلة والمجزأة والمقسمة على دول عدة أو إقامة ضرباً من الحكم الذاتي، وإن كان في إطار كل دولة من الدول التي الحقت بها كردستان.
    إن الحديث بدقة عن صفحات تاريخ الثورة الكردية ومجمل الحركة السياسية الكردية في ربوع كردستان وتحليلها مهمة مخلصة وعمل جد ضروري، وبخاصة في هذا الوقت الحساس، كما ينبغي مقارنة بعض التجارب السياسية وتقويمها وكشف واستخراج الأسباب الكفيلة بتقوية وتمتين مواجهة التجربة الراهنة للكرد ومستقبلها الغامض ونتائجها المجهولة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة