تواصل “الصباح الجديد” نشر كتاب “ذكرياتي” للمناضل العراقي الكبير فاروق ملا مصطفى، ويعد هذا الكتاب الحلقة الثانية ضمن سلسلة تهدف الى استعادة تاريخ النضال السياسي اليساري في العراق خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، ويعد الأستاذ فاروق أحد الرموز اللافتة والمثابرة في مجال المعارضة السياسية للدكتاتورية والعمل من أجل عراق ديمقراطي متنور مزدهر.
وتعود معرفتنا بالأستاذ فاروق الى عقود طويلة منها سنوات العمل المشترك ولو عن بعد، في حين حفلت تلك العقود بلقاءات متعددة، منذ بداية مشاريعه الناجحة، عندما كنت مندوباً عن صحيفة الحياة اللندنية، وسمح لي الحظ أن أرافق خططه المبكرة لواحدة من ألمع التجارب الاقتصادية والتجارية في البلاد، والمتمثلة بتأسيس الشبكة الدولية للهاتف النقال التي تحولت الى شركة كبرى هي آسيا سيل وكان حلمه آنذاك أن يكون لكل مواطن في كردستان هاتف خاص به في وقت كانت فيه تجربة الهاتف فتية على المجتمعات المتقدمة وغير المتقدمة وكنت قد أسهمت في نشر الروح المقدامة للأستاذ فاروق وجرأته التي ارتكزت الى تجربة ممتازة في مجال المشاريع المختلفة، بدءًا من صغيرها الى كبيرها، والتي انتهت الى اسهامات يذكرها كل مواطن في إقليم كردستان وخارج إقليم كردستان.
ومن المزايا المهمة التي اشتمل عليها نشاط الأستاذ فاروق، أنه حاز ثقة العالم الصناعي الامر الذي سمح له بالتوسع والانتشار الى قطاعات أخرى كبناء المستشفيات وانشاء جامعات طبية ومتخصصة وهو ما نحتاج إليه أشد الحاجة.
كما تميزت تجربة الأستاذ فاروق في انقاذه مشاريع كانت على وشك الاندثار، كمؤسسات ومعامل السمنت في الإقليم، الامر الذي أسهم في توفير فرص عمل لمئات المواطنين وتوظيف آخرين بمناصب لإدارتهم، في الوقت الذي كانت الدكتاتورية تعاصر شعبه وتهمل المدن والمؤسسات والبشر.
وفوق كل ذلك ارتفع فاروق الى الأعلى، بسلوكه الثوري الإنساني الذي عاد على العديد من اقرانه وأصدقائه ومواطنيه بالفائدة والدعم من دون أن تكون له منافع شخصية، او اهداف من قبيل نشر الدعاية الخاصة لشخصه ومؤسساته، وهذا انعكس أيضاً على الطبقة السياسية التي وجدت فيه داعماً مرموقاً ومعتمداً ومسهماً في المناسبات التي أتيحت له المشاركة فيها.
وإذ تنشر “الصباح الجديد” صفحات مشرفة لهذا المناضل، فلأنها تعد أنموذجاً للوطنية والمثابرة وحب الوطن والمواطنين.
ولا يمكن أن نتخيل مدينة السليمانية الآن بالذات، وهي المدينة التي أحبها وعشقها من دون أن نتذكر او يخطر في بالنا اسهامات فاروق وفضائله الكبيرة على مدينته، الأمر الذي يجعله موضع حب واحترام واسعين.
هذه الذكريات، انموذج للكفاح الذي أثمر أفضل ما يمكن أن يتخيله إنسان في مجال النضال الشاق والغابة السياسية المليئة بالألغام والامتحانات الإنسانية الكبيرة والقاسية.
ان تجربة الأستاذ فاروق تمنح القارئ بتفصيل ممتع نكهة الحياة والشرط البشري الذي كان عليه أن يرسمه لمجايليه وللأجيال المقبلة.
بهذه المناسبة نود أن نعبر عن امتنانا واحترامنا للتجارب التي مر بها الأستاذ فاروق ونأمل ان يشعر القارئ الكريم بالشيء نفسه.
الحلقة 9
ذكريات لا تنسى من سنوات الكفاح
جهاز الطباعة والمطبعة
مرت مسيرتنا النضالية في القيادة المركزية بمشكلات ومعوقات وحالات عوز ضائقة مالية ونزاعات وخصومات مختلفة. ومع القتل والمصائب التي دهمت قيادة الحزب، خاصة في بغداد، بعد الانقلاب الدموي الثاني للبعث في عام 1968، امتدت وتوسعت حملات البعث وشملت أجهزة المطابع ومؤسساتنا الإعلامية.
لم يكن في كردستان سوى أجهزة طباعية قليلة بالرونبو وتعرضت خلال مشكلات مصلح مصطفى، إلى تلف وضياع إلى حد أننا اضطررنا حين قررنا إصدار بيان خاص بطرد مصلح، إلى طبعه بآلة عبارة عن إطار خشبي تشد عليه قطعة قماش (كريشه) وكان الإطار أكبر من ورق A4 للكتابة بقليل، نكتب عليها الموضوع على ستنسل ونلصق الستينسل على الإطار، ونسكب عليه الحبر ونسحب عليه (رولة) بقدر سعة عرض الجهاز، كنا نطبع ورقةً بهذا الشكل وتتلوها الأوراق الأخرى على هذا المنوال.
وطبعنا أعداداً من صحيفة (ريكاى كوردستان) أي (طريق كردستان) بهذا الشكل. كان الرفاق الذين عاونوني في تلك العملية حامد شيخ حمه نوري، وملا عزيز، وعلي كريم. بعدها حصلنا على أجهزة رونيو عديدة وانتفت حاجتنا إلى الإطار!
الطباعة والمطبعة الجديدة
في لقائي الأول مع مام جلال، بعد الاجتماع الذي عقدناه مع رفاق المنظمة الثورية، قال مام جلال: لدينا جهاز طبع قديم يسرني أن أهديه إليكم، وشكرته بدوري. تستحق حكاية الجهاز وتسلمه وإيصاله إلى مقر الحزب أن تروى.
لإنجاز العملية زرت السليمانية مختفيا، على نحو الزيارات السابقة وصلت سرجنار ليلا وتسللت إلى المدينة ودلفت من الباب الخلفي إلى بيت صديقي سردار مصطفى الذي كان عضواً في الحزب ويعمل بجد ووفاء، وكنا صديقين منذ الصف الأول الابتدائي في مدرسة الفيصلية، زوجته (ألون) الأخت الجليلة ذات المنزلة الاجتماعية الرفيعة أسدت إلي خدمات كثيرة وجليلة في وقت كانت تعرف تمام المعرفة بأنني محكوم بالإعدام حكماً غيابياً.
كنا معاً في مراحل الدراسة إلى سنة تخرجنا من كلية التجارة والاقتصاد في جامعة بغداد. بعد ثورة تموز 1958، انتمى سردار إلى الحزب الشيوعي العراقي. في الليل فتحت موضوع جهاز الطبع وتسلمه وإخفائه لعدة أيام ثم نرزمه جيداً لأنقله علـى ظهر بغل إلى خارج المدينة. فقال سردار إن بيت والدتي في حي العقاري هو أحسن وآمن بيت ملائم لذلك.
كانت والدته عائشة خانم وأخته نسرين تعيشان وتقيمان معاً، بعد أن أفهمنا نسرين، ركبت ذات ليلة سيارة سردار الجديدة (من نوع أويل)، من دون أن يكون له علـم بالمكان الذي سأجلب منه جهاز الطبع ومن دون أن يستفسر أو يسأل. كان ينتظرني في منزل والدته. كانت المطبعة مُخبأة في بيت صديقنا الراحل العزيز الأخ حمه جاوشين: كانت عبارة عن جهاز طبع ثقيل وقالبين كبيرين، على ما أتذكر، كان كل واحد منهما بأبعاد 60×80 سنتمتراً، وكل طبقة تحتوي على ألف خانة صغيرة، صنفت فيها الحروف، وكان لأغلب حروفها ثلاثة أنواع: على سبيل المثال، كان لحرف العين ثلاثة أشكال (عـ، ـعـ، ع) لبداية الكلمة ووسطها وآخرها. واستطعنا أنا وكاكه حمه وشقيقه طه أن نلملم أقسام وأجزاء الجهاز ونضعها في الصندوق الخلفـي وعلى المقعد الخلفي لسيارة سردار وعدت بالسيارة إلى بيت سردار.
كان حمه جاوشين، أي (محمد ذو العين الزرقاء) شيوعياً من الإعدادية وتعود معرفتي وصداقتي به إلى تلك السنوات وكنت أعزهُ وأحترمهُ. وقد انضم في فـترة لاحقة إلى صفوف الحزب الديمقراطي الكردستاني ثم إلى الاتحاد الوطني الكردستاني. أنزلنا جهاز الطبع في بيت نسرين مصطفى مظهر. هي وسردار عاوناني كثيرا، أنزلنا الجهاز ثم أخرجنا الحروف من القوالب والخانات، وفصلنا لها أكياساً من الأقمشة ووضعنا كل نوع في كيس خاص.
بعد انقضاء أيام اتفقت مع الرفيق أحمد حمه صالح عضو اللجنة العمالية للحزب في السليمانية الذي ارتقى بعد سنوات إلى عضوية لجنة محلية السليمانية، ونقلنا جهاز الطبع إلى خارج المدينة بسيارة (فولكس واغن) قديمة الرفيق أحمد. وهناك وبالاشتراك مع جمال علي فائز ورفيق آخر، حملنا الجهاز على ظهر بغلين أعدا لهذا الأمر، وبدأنا السير مشياً على الأقدام وأوصلناه إلى مقر حزبنا في قرية (كويزان) بخمسة أيام بلياليها.
- * *
أفرح وصول الجهاز رفاقنا في مقرنا بقرية كويزان. وشرعنا فوراً في إعداد مكان مؤقت للمباشرة بتعليم بضعة رفاق لينصرفوا إلى شؤون المطبعة وتنضيد الحروف وتحويلها إلى كلمات وتثبيتها على القوالب الحديدية لطبع الأوراق، ورقه تلو ورقة. قلت (مكان مؤقت) لأن الرفاق كانوا منشغلين بتشييد بناية للمقر في كاني سبيندار (أي نبع سبيندار) قرب قرية كويزان.
مؤتمرات الحزب في تلك السنين
مؤتمر تنظيمات محافظة السليمانية
بعد إقصاء وطرد مصلح من الحزب، قررنا عقد مؤتمر لتنظيمات محافظة السليمانية على نحو اعتيادي وطبيعي لتسيير وتطوير التنظيمات.
في شهر تشرين الأول 1970 عقدنا مؤتمرا بين تلال بحيرة قضاء دربندخان دام يومين وليلة واحدة. وقمنا بصياغة الخطة المستقبلية لتوسيع حزبنا وتطويره في محافظة السليمانية، نوقشت وحدة الحزب والاعتناء بالتطوير الفكري للخلايا واللجان بصورة عامة والخط الثوري للحزب في كردستان والعراق قاطبة أديرت شؤون المؤتمر بإشرافي أنا كمسؤول لفرع كردستان، وشيخ علي برزنجي عضواً للفرع.
ولأن كتابة وتسجيل هذه المذكرات تأتي بعد مرور عشرات السنين وأعول فيها على الذاكرة، لذا فقد تخونني هذه الذاكرة فأستميح العذر ممن كان حاضرا من الرفاق ولم أورد أسمه.
أذكر من الحضور: الرفاق حامد شيخ حمه نوري، حمه غريب رشيد، أحمد حمه صالح، شيخ محيي الدين، ملا عزيز، أكرم محمد أمين (أكرم حبسه)، ملا رؤوف، فاتح، أستاذ ظاهر، حمه كريم، ياسين، حمه فرج بانيبي، أحمد حاجي علي، عله رش (أي علي الأسود)، درويش، حمه أمين رشيد البريد… الخ.
وفي الختام انتخبت لجنة محلية جديدة مكونة من: حامد شيخ محمد نوري، وحمه غريب رشيد، وشيخ باقر برزنجي، ورفاق آخرين.
بعد إتمام أعمال المؤتمر شهدت تنظيمات السليمانية تقدماً ملحوظاً.
مشهد لا ينسى من ذكريات السنين
سبق لي أن نشرت وصفا لتلك الذكرى باسم مستعار (زريا) في إحدى المجلات. استذكاراً لها أعيد تدوينها مع ذكر الأسماء الحقيقية لشخصياتها.
كنا في مقر قيادة الحزب قد تلقينا خبراً يفيد أن مصلح مصطفى، يكثر من إرسال تهديداته لبعض رفاقنا. وقد ورد اسمي واسم فتح الله عزت في تلك التهديدات. أنا لم أكن في متناول يده. كان مصلح آنذاك في هيئة أمن البعث الفاشي في كركوك، أما الرفيق فتح الله عزت، فكان محامياً بارزاً ومشهوراً في كركوك، وفي الوقت نفسه كان مسؤول لجنة محلية كركوك لحزبنا سراً، وعضواً لفرع كردستان أيضاً. ارتأيت على الفور لحظة سماع الخبر أن أهرع إلى السليمانية وأرسل في طلب فتح الله عزت.
في وقت مبكر من الصباح انطلقنا أنا والرفيق أكرم حمه أمين (الشهيد أكرم حبسه) من مقر الحزب في (كانى سبيندار) قرب قرية (كويزان) نحو (كلاله) ومنها إلى قرية (ورتى). كان الثلج يسقط بغزارة ولم يبق إلا بعض النقاط السود على الجبال والدروب، فتشكلت منه لوحة بيضاء كبيرة. بعد مسير أربع ساعات أو أقل على الأقدام عرجنا ظهرا على بيت مختار القرية كويخا عبدالله.
سرنا بعدها أربع ساعات في الطريق. على مقربة من تلك القرية التقينا بأربعة رفاق كانوا قد اجتازوا لتوهم الطريق الوعر المعروف بـ(زينو أستيركان) الذي كان علينا اجتيازه. وحين لمحونا ننوي السير في ذلك الطريق، لم يسألوا أولاً عن صحتنا وحالنا ومقصدنا بل نظروا إلينا مندهشين مذهولين، وأراد أربعتهم أن يسألوا سؤالاً واحداً، قال الرفيق طارق حاجي سعيد: “إلى أين تذهبان وسط هذه الثلوج الغزيرة والجو الغائم المضبب؟!” وفي هذا الوقت المتأخر من العصر؟! لن نسمح لكما أن تذهبا نحو (زينو وبلنكان) لأنكما لن تواجها سوى الموت ولن تجدا من ينجدكما، هيا لنرجع إلى هذه القرية القريبة. امكثا معنا الليلة إلى أن ينجلي الوضع صباحا”.
كان يوما شتائياً رطباً، والثلج يهطل بغزارة وشدة، لم يعهد القرويون مثيلاً له منذ سنين طوال.
غطي الوديان والجبال الشامخة والغابات والسفوح والقمم بدرجة لم تكن تبصر بينها بقعة صغيرة من السواد، وامتلأت أغلب الوديان بانهيارات وتراكمات ثلجية.
لم نذعن ولم نستجب لكلام رفاقنا، توغلنا في الدرب آملين أن نقتفي أثر خطاهم في نزولهم ونهتدي بها، تسلقنا المرتفع واشتد انهمار الثلج أكثر، وكلما صعدنا المرتفع جمد الهواء القارس أنفينا ووجهينا، فعصبنا رؤوسنا ووجوهنا بأشمغتنا ومضينا بتسلق المرتفع.
قال أكرم: لم أخش في حياتي من شيء، إلا أن هذا الثلج يخيفني ويرعبني كثيراً، أخشى أن نضل الدرب، ولا أعتقد أن أحدا آخر يمكن أن يسلك هذا الدرب المخيف في هذا الوقت المتأخر.
لا أريد أن أقول إنني كنت أشجع من أكرم، لكنني كنت أعرف لم ينبغي أن نسلك هذا الدرب ونقطعه في هذا اليوم الثلجي العاصف، لهذا قلت له في ضحكة مصطنعة: يا أخي نحن سلكنا معاً هذا الدرب عشرات المرات ونعرف أشجاره وصخوره، ألم نقل كل مرة لو ربطوا عيوننا ودفعونا نحو تلك الدروب فلن نتيه أبداً؟ قلتُ هذا الكلام، وكانت آثار أقدام رفاقنا الذين لقيناهم عند قرية وە رتي، قد اختفت تحت ركام الثلوج المنهمرة، ولم يكن بوسعنا العثور عليها. وبدأ الثلج المتساقط يمحو شعاب الدرب كلها. والأنكى من ذلك، وما زاد من مخاوفنا من أن نضل الطريق، هو تكاثف الضباب الذي حال دون رؤية أكثر من بضعة أمتار أمامنا.
كلما خطونا خطوات غاصت أقدامنا في أعماق الثلوج لتنتزع فردة من حذائنا الخفيف غير المبطن ولنضطر إلى أن نجثو ونمد الذراعين بحثا عنها لنلبسها وهي مملوءة بالثلج. من جديد ونخطو خطوات أخرى. وكانت بقايا الثلج في أحذيتنا تذوب وتستحيل ماء مثلجا في أثناء تحركنا من جديد تجمد أصابع أقدامنا، وبعد مدة كان دفء القدم يجعل الماء فاترا، ولولا تسرب الثلج من جديد إلى الحذاء، لقلت ضراوة الدرب بذلك الدفء القليل.
بصعوبة بالغة تغلبنا على وعورة وارتفاع الطريق، ودنونا من قمة جبل (زينو).
وحسب تقديري لم يبق أمامنا غير مائة متر لبلوغ القمة، وفجأة لمحنا شيئا اسود أمامنا، وارتبنا ثم سارعنا إلى تلك السوادة في هدوء، فأبصرنا شاباً متمدداً علـى ظهره، يرتدي سروالاً وقميصاً ومعطفاً قصيراً وقد أرغمه الـبرد القارس في تسلقه إلى القمة من الجانب الآخر على أن يلف رأسه ويشده بيشماغه. كان واضعاً يده اليمنى على قلبه وقد انقطعت أنفاسه. حركنا جسده كثيراً ولم يجد ذلك أي نفع. يبدو أن الإرهاق والبرد الشديد أثناء صعوده قد بلغا أشدهما وأنهكاه واستنزفا قواه تماماً حين ارتقى قمة جبل زينو (زينو أستيركان) وضربته الريح العاتية الدائمة. هنا تصبب العرق من أجزاء جسمه وجمدته الريح ولفظ أنفاسه الأخيرة فوق قمة ذلك الجبل العظيم.
حدق فيه أكرم بشفقة وعطف شديدين ورفع رأسه ونظر إلي نظرة تستفسر ما الذي يجب أن نفعله؟ أنا بدوري وبإحساس مماثل ألقيت نظرة أخيرة على هذا الشاب البائس الذي فارق الحياة، واضطررنا إلى تركه حيث لا يمكننا فعل أي شئ في هذا الظرف الحرج، وطلبت من أكرم أن نحث الخطى لأن الليل قد حل وأظلم تماماً وأمامنا مسافة ساعتين للوصول إلى قرية (بلنكان).
حل الظلام لكن الدنيا اشتدت بياضاً، وكان حديثنا في درب هذا الجانب من الجبل منصباً على الشاب وتجمده. على مقربة من قرية (بلنكان) استقبلنا نباح الكلاب، وبصعوبة وصلنا إلى مدخل القرية ونادينا الأخ عبد الرحمن، الذي أصبح بيته مضيفاً يؤوينا صيفاً وشتاءً كلما عرجنا على هذه القرية، فاستقبلنا بترحاب شديد وكلام طيب، ودلفنا إلى الغرفة وجلسنا حول المدفأة الخشبية التي اتقدت من كل جوانبها كما الجمر. بدأنا ندفئ أنفسنا ونجفف ملابسنا. وعبر التلذذ بالبرغل تحدثنا عن أهوال الدرب لكاكه عبد الرحمن. وقد سبقنا كاكه عبد الرحمن في الاستفسار عن رجل يحمل المواصفات التي وجدناها لدى الشاب الميت.
قال: حاولت كثيرا منعه وألححت عليه ألا يذهب فأجابني: يا خالي وكيف يهاب الرجل الثلج إن كان رجلاً حقاً.
حين أخبرنا كاكه عبد الرحمن أن الشاب الذي تقصده أن ألفيناه ميتاً في الجهة الأخرى للجبل، قهقه قهقهة غريبة. وقد صدق ما قاله للشاب أثناء محاولته لثنيه عن الذهاب لئلا يتجمد ويموت ولكنه لم يحمل كلامه على محمل الجد!
قلت لأكرم: آلا تعتقد أن الأصدقاء الذين حاولوا منعنا من المجيء في هذا اليوم القاسي لئلا نتجمد في الطريق، كانوا سيقهقهون على قلة عقلنا، إن كنا لاقينا الموت مثلما يقهقه كاكه عبد الرحمن الآن؟
- * *
في وقت مبكر من صباح اليوم التالي اتجهنا نحو قرية (كاني ماران) وسط تراكم الثلوج وقطعنا مسيرة أربع ساعات تقريباً، بعدها قطعنا مسيرة سبع ساعات أخرى متباعدة نحو السليمانية تقريباً.
دنونا من المدينة ليلاً وتسللنا إليها بعيداً عن نقاط التفتيش. وفي الصبح بكرتُ في تكليف شخص للذهاب إلى كركوك، ليتصل بالشهيد فتح الله عزت، فجاء مسرعاً إلى السليمانية.
قلنا له وردنا خبر يؤكد أن مصلح مصطفى قد هدد وتوعدنا انا وأنت، على أثر ذلك جئت إلى السليمانية، لا بدَّ من أن تمكث هنا، لا ترجع إلى كركوك. فقال، حسناً سأمتثل لأمركم ولكن دعوني أرجع إلى كركوك وأبقى أياماً هناك لأنهي دعاوى قضائية متراكمة لديّ لمراجعين أغلبهم معوزون وفقراء، سأصفي أعمالي وألتحق بالجبل أو أي مكان يختاره الحزب.
كان الشهيد فتح الله من أسرة ثرية صاحبة أملاك كثيرة، لم يفكر في المال والثروة وحياة الرفاهية والرخاء والغنى. كان عضواً في الحزب الشيوعي العراقي قبل ثورة 14 تموز أمضى سنوات طويلة من حياته في اتحاد طلبة كركوك وكلية الحقوق في بغداد، وبعد تخرجه أيضا ظل مناضلاً جريئاً وأبياً. بعد انقضاء أيام وفي أوان الغروب قيل إنه كان ينزل من مكتبه القانوني فأحاطته طغمة لحكومة البعث وانقضوا عليه. وصاح بصوت عال، يا ناس أنا المحامي فتح الله عزت وها هم يريدون خطفي.
لم يصلنا أي خبر منه، أكيد أنه قد فارق الحياة تحت التعذيب وضحى بروحه الطاهرة من أجل حزبه وشعبه ولم يعلم أحد حتى الوقت الحاضر كيف قتل واين دُفن إن كان له قبر.
كنت مسؤولاً عن تنظيمات فرع كردستان لحزبنا لمدة طويلة، أثناء ذهابي إلى كركوك كنت أمكث في إحدى دور والدة الحاج عزت آغا، واختفي فيها، أصبحت الدار وكراً لاجتماعات لجنة محلية كركوك ولجان أخرى للحزب بغية الإشراف عليها.
- * *
أثناء فترة مسؤوليتي تلك، أي بصفة مسؤول فرع كردستان للحزب، زرت أربيل أيضاً وتفقدت التنظيمات وبقيت مرات كثيرة في بيت إسماعيل خوشناو، وحاجي طاهر، وهو من أقاربي، ومن منطقة بهدينان بالأساس، خدموني كثيراً وأحطت بالتقدير والاحترام.
في إحدى زياراتي إلى بيت الرفيق إسماعيل، قالت لي والدته، كم يوماً تبقى معنا؟ قلت: عشرة أيام. فقالت وكيف حالك مع البرغل ومأكولات حياة النضال في الجبل؟ وأنا المتعود على خبز ولبن وعدس المقر، كان يروق لي البرغل فقلت لها البرغل، البرغل لذيذ جداً يا عمة. في المساء الأول رصفوا الدجاج وصنفين من الـتمن والمرق.
في المساء الثاني تحول حسب طلبي إلى التمن والمرق فقط وفي الثالث استبدل بالبرغل. وفي الصبح لملمت أغراضي لأذهب، قالت والدة الرفيق إسماعيل: لِمَ تنصرف ألم تقل سأمكث عشرة أيام؟ فقلت ضاحكاً: من نوعين ممتازين من التمن يتنزل الطعام إلى البرغل، سأذهب قبل أن يتحول إلى الخبز واللبن الخاثر. قالت والدة إسماعيل: قلتَ لي اهوى البرغل واستسيغه كان ذلك نزولاً عند رغبتك. أفهمتها أن كلامي ذاك لم يكن إلا مزحة، وعلي أن أتفقد أماكن أخرى في غضون عشرة أيام. حقاً إنهما، أقصد رفيقي إسماعيل خوشناو ووالدته الشفيقة الحنون أسديا إلي خدمة كبيرة.