خطوط التماس !

محمد زكي ابراهيـم

كنت أظن وأنا طفل صغير أن المستكشفين القدامى جابوا البلدان من أجل المتعة، وأضاعوا أعمارهم لإشباع الفضول. ولم أكن أدرك وقتها أنهم كانوا يقومون بتغيير وجه العالم، ويعدون العدة لبناء الحضارات.
عرفت بعد حين أن هؤلاء المستكشفين لم يكونوا رجالاً عاديين. فهم أما علماء أو سياسيون أو وكلاء بحريون أو قادة جيوش أو مبشرون دينيون، قدموا معلومات ثمينة للدول والحكومات والشركات التجارية والمنظمات الدينية والاجتماعية. وأسهموا في اكتشاف بلدان كثيرة لم تكن معروفة من قبل. كما نجحوا في إيجاد طرق جديدة تصل الغرب بدول الشرق البعيدة. وبسبب هذه المعلومات انطلقت حركة الاستعمار في آسيا وأفريقيا. وخضعت معظم الأقطار فيها للهيمنة الأوربية.
وقد أدت هذه الكشوفات إلى إفقار البلاد العربية وحرمانها من موارد عظيمة كانت تتدفق عليها من تجارة النقل. ورافق حركة الاستعمار استغلال بشع، واحتلال مقيت. وشيئاً فشيئاً خمدت الحضارة في هذه البقاع وعاش السكان في فاقة وحرمان.
ومع ذلك فإن هذه الحروب حملت أضدادها أيضاً. فقد كان هناك إلى جانبها رسل ثقافة أيضاً.
ذات يوم حمل الاسكندر المقدوني ثقافة اليونانيين معه إلى بلاد الشرق، في غمرة حروبه التي غزا بها بلاد فارس. ومنذ ذلك الحين عرف الشرقيون حضارة الإغريق.
وقد قرأت رسالة كتبها الزعيم الهندي جواهرلال نهرو إلى ابنته إنديرا يشيد فيها بكتاب أبي الريحان البيروني «تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة» ويصفه بأنه من أنفس ما كتب عن الهند من آثار.
كان البيروني (ت 440 هـ ) قد رافق الحملة الغزنوية التي قامت بفتح الهند، وعاش فيها سنوات طويلة. فسجل مشاهداته وانطباعاته عن تلك البلاد، ودون معلومات ضافية عن الديانة الهندوسية، واللغات الشائعة، وعادات السكان وطبائعهم. وهي أمور تتطور مع الوقت، وتتبدل بمرور السنين.
وبسبب هذه الفتوحات حدث احتكاك كبير بين الشرق والغرب، والعرب والآسيويين. بل إن معالم الحضارة تسربت بهذه الطريقة. فقد فتحت الجغرافية القديمة الطريق لامتزاج الناس واندماجهم مع بعضهم البعض. وسمحت لحركة التأريخ أن تأخذ مجراها في هذه البقاع، رغم ما شابها من أذى، وما رافقها من انتهاكات.
لقد تعلمت وقتها أن الثقافات لا بد أن تلتقي مع بعضها في خطوط تماس، من تلك التي تحدث عنها صموئيل هنتغتون، إن سلماً أو حرباً. ولو بقي الناس هكذا دون أن يخرجوا من بيوتهم، فسيطويهم الردى، ويتداركهم النسيان.
ولست أدري كيف كانت الشعوب ستلتقي لو لم يكن هناك جغرافيون كبار أمثال هيرودوت، والبيروني، والمسعودي، وابن بطوطة، وابن فضلان، وكولومبس، وماجلان، وابن ماجد، وغيرهم، مهدوا لهم الطريق، وعبدوا لهم المسالك.
الثقافة لا تنتقل فقط بالكتب والأشعار والهدايا التذكارية. لكنها تنتقل قبل كل شئ بالملامسة، والتواصل، والتقارب، والاندماج، والقيل والقال، وسوى ذلك من أمور!

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة