الثقب الأبيض Vs الثقب الأسود
متابعة الصباح الجديد :
بالتأكيد قد سمعت عن الثقوب السود، وربما لا تعرف ماهيتها بالتحديد، لكنك سمعت هذا المصطلح عن هذه الأجسام الغريبة الموجودة في الكون. وربما عرفت أن الزمن بالقرب منها يتباطأ بنحو مذهل بعد أن تكون قد شاهدت أحد أفلام الخيال العلمي المثيرة، وآخرها فيلم Interstellar.
في الواقع قد تكون الثقوب السود أكثر ألغاز الكون غموضًا بالفعل، إذ يُعتقد أن هذه الأجسام الغريبة هي المراكز أو الأنوية المنهارة للنجوم الميتة، وهي معروفة جيدًا بخاصية واحدة بالتحديد: حين يدخل إليها جسم ما، فإنه لا يستطيع الخروج منها أبدًا. بعبارة أخرى: لا شيء يستطيع أن يفلت من جاذبية هذه الثقوب، حتى الضوء نفسه.
وبحسب ما نعلم فإن الثقوب السود كثيفة لدرجة أنه لا يوجد شيء يمكن أن يفلت من أفق الحدث (طبقًا للنظرية النسبية، فإن أفق الحدث هو الحد الموجود حول الثقب الأسود، حيث يفقد الضوء قدرته على الهرب، لكن ما لا يعرفه البعض، هو أن هذه الثقوب السود ليس النوع الوحيد من «الثقوب» الموجودة في الفضاء.
الثقب الأبيض Vs الثقب الأسود
دعنا نفترض أنك تتجول وسط أرقام المعادلات التي تستكشف خواص المكان والزمان عن ثقب أسود، ثم قمت بعملية طرح لهذا النجم المنهار – كل المادة الفعلية والكتلة – من حساباتك. فإن ما ستصفه الرياضيات المتبقية لك هو شيء يسمى «الثقب الأبيض»، أو ما يمكن وصفه بأنه «تفرد بلا كتل» (massless singularity).
ويقصد بالتفرد (singularity) هي تلك المناطق من الفضاء حيث تصبح كثافة المادة، أو انحناء الزمان، بلا حدود. في مثل هذه الأماكن، تميل المفاهيم القياسية للمكان والزمان لتصبح بلا أي معنى. تحدث حالات التفرد في جميع الثقوب السود وكذلك في نماذج معينة من الكون. لكن بنحو عام تخفي الرقابة الكونية هذه التفردات الكامنة وراء آفاق الحدث، باستثناء التفرد الأولي الخاص بالانفجار العظيم. وكما يوحي الاسم فإن الثقب الأبيض هو عكس الثقب الأسود.
وظل علماء الفيزياء الفلكية يلعبون بهذا المفهوم منذ سبعينيات القرن الماضي. عندما يكون أفق حدث الثقب الأسود هو الحد الذي تمنع فيه قوة الجاذبية حتى الضوء من الوصول إلى سرعة مناسبة للهروب من جاذبية الثقب الأسود، فإن أفق حدث الثقب الأبيض يمنع أي شيء من الدخول إليه.
بكلمات أخرى بسيطة: لا يمكنك الهروب من ثقب أسود، ولا يمكنك الذهاب إلى ثقب أبيض. في حين أن الثقب الأسود يمتص كل المواد بجميع أشكالها، فإن الثقب الأبيض يخرج هذه المواد .
لك أن تتخيل إذًا أن الثقوب البيض ستكون مشرقة وساطعة بنحو لا يصدق، وحيوية بشكل لا تتخيله، فهي تلقي الإشعاع في الفضاء بمعدلات غاضبة.
لماذا لم نتمكن من مشاهدة
ثقب أبيض حتى الآن؟
من الناحية الافتراضية، سيكون الأمر مثل الضغط على زر الإرجاع (rewind) على ثقب أسود. كل شيء سينعكس في وقتها على الفور، وكل ما امتصه الثقب الأسود سينطلق من جديد للفضاء، ليتغير اللون من الأسود إلى الأبيض.
ووفقًا لكتابة إريك كورييل في «موسوعة ستانفورد للفلسفة»: «لأن معادلات المجالات الخاصة بالنظرية النسبية العامة لا تنتقي اتجاهًا مفضلًا للزمن، فإذا كانت قوانين الجاذبية والزمكان تسمح بتكوين الثقب الأسود، فإن هذه القوانين أيضًا ستسمح بتكون الثقوب البيض».
لكننا لم نلاحظ قط وجود ثقب أبيض، يعتقد الفيزيائيون أن هذه الأجسام غير قادرة على التواجد في الكون، وهناك عدة أسباب لذلك. بالتأكيد سنذكر عددًا من هذه الأسباب ببعض التبسيط، لأنها أمور قد تكون معقدة بعض الشيء، لكنها بالتأكيد مثيرة إلى أقصى حد.
سؤال واحد كبير: كيف سيكون شكل الثقوب البيض؟
العلماء لديهم نماذج معقولة للكيفية التي تتشكل بها الثقوب السود، لكن الأمر لا يبدو كما لو كنا نستطيع فعلًا القيام بعملية «عكس» الوقت في الكون لتحويل هذه الثقوب السود إلى ثقوب بيض.
إذا كانت الثقوب السود في حالة تفرد، فمعنى هذا أنه لتكوين ثقب أبيض فيجب أن تبدأ بالتفرد، ثم العودة إلى الوراء، يجب على الجسم أن «يتقيأ» المواد بكل أشكالها حتى تعود هذه المواد وتتجمع من جديد في شكل نجم.
يبدو الأمر منطقيًا، خصوصًا وأن الثقوب السود بدأت بنجم، ثم انهار على نفسه تحت تأثير جاذبيته الخاصة ليتحول إلى حالة التفرد.لكن عملية تكوين نجم من حالة التفرد هذه تتطلب انخفاضًا في الإنتروبيا أو القصور الحراري، وهو ما ينتهك القانون الثاني للديناميكا الحرارية. وسنحتاج هنا إلى بعض التوضيحات بخصوص هذه المسميات.
الإنتروبيا أو القصور الحراري (Entropy) هو مفهوم هام في الديناميكا الحرارية (يقصد بها حركة الطاقة الحرارية من مكان لمكان آخر)، وخاصة للقانون الثاني الذي يتعامل مع العمليات الفيزيائية للأنظمة الكبيرة المكونة من جزيئات هائلة الأعداد ويبحث سلوكها كعملية تحدث تلقائيًا أم لا.
أما بالنسبة للقانون الثاني للديناميكا الحرارية فينص على مبدأ أساسي يقول: إن «أي تغير يحدث تلقائيًا في نظام فيزيائي لا بد وأن يصحبه ازدياد في مقدار «قصوره الحراري». إذ يميل أي نظام مغلق إلى التحول تلقائيًا بزيادة قصوره الحراري حتى يصل إلى حالة توزيع متساو في جميع أجزائه، مثل تساوي درجة الحرارة، وتساوي الضغط، وتساوي الكثافة وغيرها من الصفات.
هذا التوازن لا يصل له النظام المعزول في ذات اللحظة، بل يحتاج إلى وقت. يمكن تخيل الأمر بإلقاء قطرة من الحبر في كوب ماء، سنلاحظ أن قطرة الحبر تذوب وتنتشر تدريجيًا في الماء حتى يصبح كل الماء متجانسًا ولون الحبر متوزع بانتظام في كل الكوب. هنا نقول: «إن القصور الحراري للنظام تزايد».
بعبارة أخرى فإننا نقول: «إن النظام زادت العشوائية فيه، فلا يوجد به منطقة عالية التركيز وأخرى منخفضة التركيز؛ فقد أصبح توزيع الحبر في الماء متساويًا. أي أن مجموع القصور الذاتي لقطرة الحبر النقية زائد القصور المائي للماء النقي تكون أقل من القصور الذاتي لنظام الحبر الذائب في الماء».
وماذا عن عكس العملية؟ أي محاولة فصل الحبر الذائب عن الماء. هذه العملية يتبعها خفض لأنتروبيا النظام، هذا بالطبع لن يحدث تلقائيًا كما حدث في السابق، إذ أننا لا نشاهد عملية انفصال الحبر عن الماء تحدث بشكل تلقائي في الطبيعة، بل يحتاج لتدخل خارجي باستعمال قدر من الطاقة.
من هنا نفهم أن الطبيعة تتجه نحو تحول النجوم إلى ثقوب سود متفردة بشكل تلقائي من دون أي تدخلات خارجية. لكن أن يحدث العكس – تحول ثقب أسود إلى نجم مرة أخرى هو أمر يتناقض مع أسس وقوانين الطبيعة، وبالتالي هي عملية لا يمكن أن نشاهدها في الطبيعة.
المشكلة الأكبر: التفرد
مشكلة ثانية تواجهنا، وهي أن بدء حالة التفرد هي بحد ذاتها مشكلة أيضًا. «إن الطريقة الوحيدة لإعداد حالة التفرد في الكون الحقيقي هي أن تبدأ من كونها هناك منذ البداية. بطريقة ما يتعين على الكون أن يتشكل مع أشكال جاهزة من التفرد»، هكذا أوضحت عالمة الفيزياء الفلكية كارين ماسترز. وأضافت «لا يوجد سبب للإيحاء بأن الكون بدأ بتفردات جاهزة. سيكون من الغريب حقًا أن يحدث ذلك».
ولكن دعونا نتجاهل كل ذلك لثانية واحدة، ونفترض أن هناك ثقبًا أبيض قد ظهر إلى حيز الوجود بطريقة ما. وفقًا للرياضيات، فإنه سيكون من غير الممكن وجود مادة في نسيج المكان في الفضاء الخارجي تتضمن ثقبًا أسودًا في هذه الحالة. لأنه بمجرد دخول المادة إلى تلك المنطقة، وبغض النظر عن مدى صغرها، لم يعد بإمكانها تضمين ثقب أبيض.
بكلمات أبسط، إذا كان هناك ثقب أبيض في أي وقت مضى، فمن المحتمل أنه توقف عن الوجود بسرعة كبيرة. فإذا كان للكون ثقوب بيض منذ البداية، فالأرجح أنها تلاشت منذ مليارات السنين قبل أن تبدأ الحياة على الأرض.
مجرد نظرية لكن قد تقع
ولكن في حين أن الثقوب البيض هي مجرد نظرية بحتة في هذه المرحلة، كذلك كانت الثقوب السود كانت كذلك ذات مرة، ومؤخرًا أيضًا. حتى بضع عشرات السنوات فقط، لم يكن أحد يتخيل وجود أي ثقب أسود، بالرغم من أن المعادلات الرياضية النسبية رجحت وجودها. الآن، العلماء يستعملون تليسكوباتهم لرؤية أول ثقب أسود.
في الواقع، هناك حدث ما طرحه العلماء على أنها ثقب أبيض مرشح، وهو ما يطلق عليها اسم انفجار أشعة جاماً. تعد هذه الانفجارات بعض من الأحداث الأكثر إشراقًا ونشاطًا في الكون، اذا تنبعث طاقة في 10 ثوانٍ أكثر من طاقة الشمس في 10 مليار سنة. هل تتخيل كم هذه الطاقة المذهل.
يرافق هذه الانفجارات حدوث توهج يشير إلى أنها نشأت من خلال انفجارات نجمية.
وفي عام 2017، رأى علماء الفلك واحدًا من هذه الانفجارات يحدث بالفعل، بسبب تصادم مشهور بين نجمين نيوترونيين، «GW170817». ولكن في عام 2011، اقترح اثنان من علماء الفيزياء الفلكية أن أشعة جاما التي تنفجر بخصائص غير أعتيادية قد تكون بمنزلة ثقب أبيض.
ويعتقد علماء الفلك في ناسا أنه من المحتمل أن هذه الانفجارات الهائلة تمثل وجود ثقب أسود في مرحلة التكوين. هؤلاء العلماء يرون أن احتمالات كون انفجارات أشعة جاما في الواقع ثقوب بيض هي احتمالية ربما تكون منخفضة جدًا جدًا بالنسبة لهم.
هل كان الانفجار العظيم
مجرد ثقب أبيض؟
هناك تلك الفكرة التي تبدو متوحشة ومثيرة إلى أبعد حد، والتي تقول إن الانفجار الكبير الذي تسبب في نشأة الكون كان بحد ذاته ثقباً أبيض هائلاً. هذا المفهوم استكشفه العلماء أيضًا رياضيًا. لكن مرة أخرى، كل هذه الأفكار ليست أكثر من أشياء نظرية للغاية.
في الواقع، قد يكون مصطلح «الانفجار الكبير» مضللًا إلى حد ما في هذا الصدد. فوفقًا لنظرية التيار السائد من العلماء، فإن الكون لم ينفجر إلى حيز الوجود من نقطة واحدة فقط كما يشاع، لكنه انتفخ إلى الوجود، وقضى 500 مليون سنة أو نحو ذلك في الظلام، ولم يتوسع فعليًا قبل أن يتأين الوسط الموجود بين المجرات، والتي عندها أضيئت الأنوار في الكون. هذا لا يتفق بنحو كبير مع أنموذج الثقب الأبيض.