لم يشهد العالم على امتداد القرن الأخير في الأقل، قيادة أميركية بهذا المستوى من الاضطراب السياسي والأخلاقي، ونعني بهذا قيادة الرئيس ترامب، أو ما يعادل نصف عهده الأول كرئيس لدولة وصفت حتى الآن القطب الأول والأوحد والأقوى في العالم.
وإذا كان لنكهة الصراع السياسي العالمي في الحرب الباردة التي استمرت نصف قرن ونيف، مبررات وخلفيات ومقدمات معروفة، فما يجري الآن على الساحة الدولية يتسم بالارتباك والحيرة التي ترافقهما توترات يمكن أن نصفها “حافة الكارثة”. ونقصد بذلك السياسات التي يتبعها ترامب في الشرق الأوسط وهي السياسات خرقاء في مقدماتها كما في نتائجها المتوقعة وموقفه من الاتفاقات الدولية الكبرى كمعاهدة باريس للمناخ، إذ يترافق انسحاب ترامب مع صعود مستويات الحرارة والسخونة والاضطراب المناخي في العالم كله، حتى أن أوروبا المركزية تفقد الآلاف من الأرواح بسبب الحرارة والطقس. ويضاف الى ذلك، وعده الأخرق ببناء جدار عازل مع المكسيك لم ينجح في تمويله حتى الآن وليس هناك بصيص أمل بنجاح مشروعه هذا الذي ترافق مع أزمة أخلاقية أميركية كبرى تمثلت بسياساته إزاء المهاجرين، وهي سياسة بكل المقاييس تقع في قعر الالتزامات الأخلاقية الأميركية.
أما على المستوى الدولي فثمة قضايا يخجل المرء منها أساسا، بمعزل عن الأرضية السياسية لهذا الموقف، فهي تتعارض ليس فقط مع المبادئ والاستراتيجيات، وإنما مع المرتكز الأخلاقي السياسي التي تدعيه الولايات المتحدة. وهذه المواقف تقع في أكثر الانتهاكات الأخلاقية في السياسة العامة.
وأول هذه القضايا، اتباع ترامب مقتربات مبتذلة للغاية عند تعامله مع القيادات الدولية شتى، لا يمكن تبريرها على أي مستوى، فمثلا يعقد في هذه الأيام في الدوحة سابع اجتماع للولايات المتحدة مع طالبان، وما أدراك ما طالبان، الملجأ الأساس لأسامة بن لادن، والمركز الأساس للتدريب على الإرهاب في العالم، وما خلفتها من حرب مفتوحة عليها بعد الحادي عشر من أيلول.
التفاوض بين طالبان والحكومة الأميركية كان يمكن أن يبرر لو كان ضمن مشروع إقليمي شامل يضم في الأقل ممثلين عن الحكومة الأفغانية التي أسستها ودعمتها وغذتها ومولتها واشنطن، ودربت جنود أفغانستان، وخسرت المئات إن لم نقل الآلاف من الجنود الأميركان في الميدان وهي تحارب طالبان.
الآن يعمد ترامب الى التفاوض مع طالبان بمعزل عن الحكومة الأفغانية وغيابها، وبناءً على اشتراطات طالبان بعدم مشاركة الحكومة، فلا يفهم العالم من أي مرتكز يمكن أن يمسك كي يبرر هذا التراجع الكبير بالتعاملات الدولية.
أما الملف الثاني فيأتي بتعامله مع السعودية وولي عهدها، بهذه الخفة والسطحية الأخلاقية إذ يقف ليخطب بالعالم مادحا أخلاقيات الأمير محمد بن سلمان، ويصف ما يقوم به بالثورة داخل المجتمع السعودي، وهو يدرك أنه قبل أشهر قليلة كان ترامب يعاني من أن سلمان متهم بقتل الناشط السعودي الراحل جمال خاشقجي، ويأتي هذا المديح السمج من ترامب بعد أسبوع من تسريب تقارير تشير الى ان واشنطن سمحت بتمويل السعودية بأسلحة لها بُعد نووي، ويعلم ترامب جيدا ان السعودية تمتلك أسلحة نووية مؤجرة من باكستان والدوائر الأميركية المطلعة أبغت الإدارة الأميركية بذلك منذ فترة، ولا يعلم هذه الصواريخ موجودة في المملكة أم في مكان آخر إلا أنها تمتلك سبعة رؤوس نووية في الأقل كما تؤكد مصادر أميركية، ولكنه في الوقت ذاته يشن حملة كبيرة على ايران بتهمة أنها تريد امتلاك أسلحة نووية وهذا أمر غير مفهوم بالسياسة الدولية وبمعزل عن معنى امتلاك دول شرق أوسطية أسلحة نووية، وهو أمر غير مرغوب، إلا أننا لا نفهم لماذا تصر واشنطن، هذا إن غضينا النظر عن إسرائيل على أهمية منع ايران الحصول على أسلحة نووية، وهنا يأتي المثل الثالث الذي يقع بالمنطقة الأخلاقية نفسها وهو ما تسرب خلال اليومين الماضيين من ان واشنطن قد تتسامح مع وجود كوريا شمالية نووية، واعتبار حكومة الدكتاتور كيم جونغ اون حكومة لطيفة وممتعة وهو سعيد بها.
مشهد ترامب وهو يتبختر عابرا الحدود الوهمية او الحدود في المنطقة معزولة السلاح بين الكوريتين أمر يبعث على الغثيان حقا، فاللقاء الذي جرى بينهما كما هو معروف، جرى بإلحاح من ترامب، الذي لم يخرج منه سوى بالمديح الفائق، لذلك الزعيم الدكتاتور في كوريا الشمالية.
هل تبدو الولايات المتحدة في موقع قادر على أن يقنع العالم بمرجعياتها الديمقراطية والسياسية والأخلاقية؟ ألا يشكل هذا كله إشارة الى ضرورة ان تقوم حكومتنا الوطنية العراقية بمراجعة سياساتها تجاه واشنطن؟ في الأقل قبل ان يفوت الأوان.
اسماعيل زاير