فواز طرابلسي
في الخامس من شباط / فبراير 2019 غادرنا الفنان أمين الباشا، أحد كبار تشكيليّي العصر الذهبيّ للفنّ بلبنان في ستينيّات القرن الماضي وسبعينيّاته.
أمين، المولود في العام ١٩٣٢، بدأ بالرسم باكراً وهو يرافق خاله الرسّام والموسيقيّ. غادر بمنحةٍ لدراسة الرسم في باريس بعد تخرجه من الأكاديميّة اللبنانيّة للفنون الجميلة. تنقّل بعدها بين إيطاليا وإسبانيا، بلد زوجته آنجلينا، قبل أن يعود ليستقرّ في لبنان.
أنتج وعرض أعماله خلال نصف قرن من العام ١٩٥٩ إلى العام ٢٠٠٩ في لبنان وعدد من الدول العربيّة والأوروبيّة. حاز على عدّة جوائز. مارَسَ التدريس. وألّف كتباً وكتب مسرحيّة. على الرغم من عنوان مسرحيّته «المنتحر»، لم تكن المآسي له ولا الحروب، مع أنّه غادر في منحةٍ إلى إيطاليا حيث أنتج مجلّداً عن يوميّات الحرب.
كنت شاهداً ذات مرّةٍ عندما فقدتْ لوحاتُه البهجة واللون. كان ذلك خلال حصار الجيش الإسرائيليّ لبيروت صيف العام ١٩٨٢. زرته في مرسمه مقابل الجامعة الأميركيّة يوم الأحد في ٢٢ آب / أغسطس، وهذا ما دوّنته في يوميّاتي: «كان أمين مستغرقاً في مائيّاته عن الطبيعة عندما دهمتْه الحرب. قَتمتْ ألوانُه، وهو سيّد من استخدم الضوء والنور. تكسّرتْ خطوطه. وطائره الأسطوري زاهي الألوان صار أشبه بغُراب، وانقلب على ظهره».
أمين الباشا إنسانٌ منذور للفرح. لا يوحي بذلك. ليس ضحوكا ولا كثير الابتسام. لكنّه لعوب له فنّه الخاصّ في الدعابة والسخرية. يعيد ترتيب الأشياء حسب هواه. يشاغب. ينظّم المقالب على الطبيعة والإنسان. وقد رسم بكلّ الطرق: بالقلم الرصاص والحبر والمائيّات والزيتيّات. رسم الوجوه، الزهور، القلوب، الثمار، الماء، الأفق، الشمس، البحر والطيور.
يبقى أنّ أسلوبه المميّز يتجلّى في المائيّات. وهو المعلّم في هذا النَّوع! وحدها مائيّاتُ أمين الباشا تريك النور يتلألأ بين خضرة الطبيعة.
ثلاثيّةٌ لا تفارق أعماله: وجه امرأة وشمس وطير. دوماً الطير: «يحطّ على المائيّة أو الزيتيّة ويحشر نفسه عفويّاً فيها»، كان يحلو له أن يقول، ويضيف «لست أستطيع أن أقول ما الذي يمثّله الطير، أشعر فقط أنّه يجب أن يكون هنا». يحطّ الطير أينما كان في رسومه: على يد، نادراً على غصن، على ذراع امرأة عارية، أو على ظهر رجل يسعى إلى حبيبته، أو تجده يرفرف بين رجل وامرأة متقابلين، أو واقفاً على رأس هذا او ذاك. لا رمزيّة في الأمر ولا استعارة. ليست طيور أمين الباشا حَمامات سلام. ولا هي يَمام بيروت. إنّها طيورٌ وحسب. كائنات طبيعيّة هشّة جميلة تزقزق وتشحذ مناقيدها على كلّ مادّةٍ صلدة وترفرف وتبني أعشاشا وتبِيض وتحرُس صِغارها وتزقّهم الأكل وتعلّمهم الطيران. وتطير بلا سابق إنذارٍ وتحطّ على القلب.
لا أمين الباشا دون بيروت. وبيروته الأزرقان: بحرها والسماء. يحمل دفاتره ويتجوّل في المدينة إلى أن يستجلس في مقهى ويرسم. يقول إنّه تتلمذ في مقاهي بيروت قبل أن يدرس في الأكاديميّات. ارتاد المقاهي الشعبيّة العتيقة – «قهوة القزاز» و«مقهى فلسطين» – قدر ما جالس زملاءه الأدباء والفنّانين في مقهى «لا پاليت» العصريّ. وهذا قبل انتقاله إلى مقاهي شارع الحمرا والروشة.
أمين الباشا فنّان المدينة. لكن على طريقته الخاصّة. الطبيعة عنده تخييل وتزيين. أمين الباشا يزّين المدينة بالريف وبالشِعر، ولو سُئِل لأضاف… وبالموسيقى أيضاً. أمين الباشا فنّانٌ يجمّل الأشياء. يرى إلى الفنّ على أنّه صُنعة تزيد الحياة بهجة وجمالاً.