تطوير الألحان التراثيّة على إيقاعات الجسد

شهادة عبد الحليم كركلا

زكي ناصيف نبع بحدّ ذاته، تأثّر الجميع بجملته الموسيقيّة بنحو أو بنحو آخر. هو انعكاس شعبيّ لكلّ الحالة التراثيّة بكلّ معنى الكلمة. هو ابن الأرض والعرس والموّال والعزاء وما يمثّل ذلك الزمن من قيَم، وبالتّالي لن تستطيع الأجيال القادمة أن تأتي بزكي ناصيف آخر.
كان أوّل لقائي بزكي ناصيف عبر أخي سعيد التي تولّى مهامّ إدارة موقع قلعة بعلبك وكان مثله منتمياً إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي. وأذكر الليالي اللبنانيّة الأولى في بعلبك العام ١٩٥٧ عندما تطوّعت مع حوالى ١٢ شاباً من أبناء المنطقة وأعضاء الحزب بنحو غير رسمي، لتوزيع أوراق تذكر أسماء الأغنيات التي لحّنها زكي كي يتعرّف الناس إلى أعماله، وقد كوّنت جزءاً كبيراً من البرنامج. أسعدت زكي هذه المبادرة وقرّبتني إليه.
تفرغتُ للعمل الفنّي بعد الحصول على بطولة لبنان والدول العربيّة في رياضة القفز العالي، واشتركت مع الفرقة الشعبيّة اللبنانيّة (الأخوين رحباني) إلى أن قمت بتأسيس فرقة كركلا. رحّب زكي بدعوتي للتعاون الفنّي خصوصاً بعدما اُستُبعد عن المهرجانات رغم أنّه رائد العمل الفلكلوريّ في لبنان، وكانت فرصة مناسبة له ليعود مجدّداً بزخم إلى العمل الفلكلوري الذي أحبّه وشغف به.
تخلّلت السنوات الأولى من عملنا المشترك بعض التباينات في وجهة النظر بشأن منهجيّة العمل التي كنت أسعى إليها ومحورها الرقص بالدرجة الأولى ومن ثمّ الموسيقى والغناء، إلى أن أخذت الأمور مداها الرّحب في العمل الثالث وهو «طلقة النوْر». فكنت أرغب أن أتخطّى ذاتي في كلّ عمل وأبحث عن آفاق جديدة في المواضيع والألحان والتوزيع الموسيقي. أصبح زكي أكثر حماسةً وانفتاحاً للتجديد في تعامله مع الفلكلور، وعاش حالة فنيّة متجدّدة لأنّ الفنّ تجربة. كان هو بحاجة إلى مَن يستطيع احتضان هذه التجربة ولوضعها على نار حامية بحيث يصبح بمقدوره أن يشهد على تنفيذ أعماله وتطوّرها.
تبنّى زكي مشروع كركلا وكان همّه أن ينجح هذا المشروع ويكمل مسيرته، وخلال ١٨ سنة من العمل المشترك لم يطلب منّي أيّ بدل مادّيّ برغم صعوبة وضعه المادّي. قال لي أنا سأعمل والمطلوب منك فقط النجاح. ولا بد من الإشارة إلى أنّ زكي كان هو مسؤولاً عن حالة كركلا، وكان أحد دعائم نجاحها. وتلك المراحل هي من أسعد المحطّات في حياتي، وقد تكلّلت بوجود زكي الداعم لأعمالي. في العام ٢٠٠٠، تغيّر أسلوب فرقة كركلا ولغتها الفنّيّة، وانتقلنا إلى مرحلة جديدة من العمل الفنّي.
زرتُ زكي في المستشفى قبل أسبوع من رحيله. شعرت بأنّ هذا اللقاء قد يكون الأخير، فرقصت له «عالعميّم عالعمام» أمام سريره، وقبّلت يديه. لم تفارق الضحكة وجهه ولم يتكلم إلّا دعاءً بالتوفيق. لا أنسى هذه اللحظات. لولا هذا الإنسان قد لا يكون كركلا مثلما كان وأصبح الآن.
كنا نعمل معاً بنحو مكثّف خلال جميع مراحل إعداد العمل، يتخلّلها «خناقات» نحو إيجاد المُنشَد في الجمال الفنّي. يفتّش زكي عموماً على الفرح بواسطة الفنّ، وكان يُحبّ حضور عروض الافتتاح فيغمره شعور عارم بالسعادة لنجاح العمل. كما كانت له مكانة خاصّة عند أعضاء الفرقة كلّهم.

يرى الخطوات قبل الموسيقى
نبدأ التحضيرات بشرح القصّة وتطوّر خطوط الفكرة الرئيسة للعرض. كنت أدرس السيناريو وأخصّص الحالات الشعبيّة والتراثيّة فيه لزكي وأعطي بقيّة الفقرات لملحّنين آخرين، كلٌّ حسب مجاله، ممّا أوجد منافسة فنيّة إيجابيّة لصالح العمل. وكنت أزوّد زكي بمجموعة من الألحان التراثيّة التي حصلت عليها عبر رحلات ميدانيّة، وقد أسّست إلى جانب الفرقة مركز أبحاث تراثيّاً يهدف إلى جمع العادات والتقاليد، والأزياء والألحان من جميع أنحاء الدّول العربيّة. تشعر بأنّ زكي عرف ماهيّة هذه الألحان فور سماعها، فهو كالإسفنج في تفاعله مع الموسيقى.
يقيم زكي في استديو التدريب في المرحلة التالية، فيرى خطوات الرقص قبل أن يبدأ بالعمل على الموسيقى، ويدوّن ملاحظته حول كلّ حركة، فهو يكتب خصيصاً للرقص. هنا تتفتّح أفكاره، ويترجم ثيمات الألحان التراثيّة بناءً على جمل ايقاعيّة توائم إيقاع حركة الجسد وسرعتها. كنت أنطلق دائماً في نقاشاتي معه في تفاصيل كلّ كلمة أو فكرة من منظور الرقص، ويستلهم منّي الطاقة والإيقاع ويستكمله، فتأتي الموسيقى متزاوجة حركيّاً، وبصريّاً، وسمعيّاً. وعندما «يفقّش» في أصابيعه أعرف أنّه أنجز فقرة موسيقيّة جميلة.

كان يعدّل بالألحان التراثيّة أحياناً ويقوم بتوزيعها وينظم كلام جديد لها أحياناً أخرى بالتوازي مع السيناريو وتصميم خطوات الرقص، كما كان يشارك بمقطوعات من تلحينه. وقد دخلت في نقاش صاخب مع زكي بخصوص الآلات الموسيقيّة كان حصيلته أن استبعدنا آلة الأكورديون التي أحبّها، وآلة الدربكّة، وهي ذات أصل تركي، واستبدلنا بها الطبل الذي يستعمله البدو والدفوف الإيرانيّة.
زكي كان مغرماً بصوته، وفي كلّ عمل كنت أتشوّق لاختيار أغنية أو أكثر يؤدّيها بصوته. أرى الفرح يغمر قلبه وأشعر بإحساسه بالشموخ عندما أراقبه خلال غنائه. وقد ألحّ زكي منذ العمل الأوّل على أن يشارك أعضاء الفرقة بالغناء. وقبل المباشرة في تسجيل الموسيقى مع مهندس الصوت فريد أبو الخير، تتصاعد النقاشات من جديد لأنّني أُصرّ على حذف المقاطع التي لا تخدم الرقص. كذلك كان الأمر مع توفيق الباشا ومارسيل خليفة. لا أعرف تماماً لماذا تعشق الأذن الترداد، بينما ترفضه العين. فالأغنية تزداد حلاوة كلّما نستعيدها، في الوقت الذي يؤدّي التكرار في حركات الرقص إلى الرتابة والملل. أسعى دائماً إلى أن تدخل العين إلى الأذن، وأن تمشي أمامها وليس العكس.

  • نشرت هذه المقالة في مجلة بدايات

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة