يستعمل مصطلح النظرية النقدية في العلوم الاجتماعية ليشير الى نظريتين مختلفتين من حيث النشأة والتاريخ.
من حيث التاريخ فان النظرية النقدية نشأت او انبثقت من النظرية الاجتماعية اما النشأة فانبثقت من النقد الادبي.
التطورات التي طرأت على مناهج العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية استطاعت ان تزيح بعض الفوارق والحواجز ما بين النظريتين، وأصبح هناك تداخل بين النقد الادبي الذي يدرس بنية النص وبين الدراسات التي تتعلق بالمجتمعات البشرية والأنظمة التي تسود فيها.
وبناء على ما تقدم فان مصطلح النظرية النقدية بات شائعا جدا، إضافة لكونه مصطلحا واسعا يغطي مجالا واسعة من النظريات العلمية التي تتناول منهجية دراسة العلاقات بين المكونات سواء كانت مكونات أدبية نصية أم مكونات اجتماعية أنثربولوجية وهي غالبا ما تندرج ضمن نظريات ما بعد الحداثة.
رسم آلن هاو في كتابه النظرية النقدية الخطوط العريضة لما بذله هور كهايمر من جهود أولى بوضع نظرية ديالكتيكية تقف إزاء نظرة سلفه غرونتبرغ الوضعية “الاستقرائية”، غير ان النظرة الديالكتيكية التي قدمتها النظرية النقدية لم تقتصر على الماركسية الوضعية حسب، بل تعداها أيضا الى وجودية تلك الفترة.
ويستكشف هاو في فصل آخر الطريقة التي سعى من خلالها يورغن هايرماز منذ أواسط ستينيات القرن العشرين الى إعادة بناء النظرية النقدية في اتجاهات تتغلب على التشاؤم والتناقض في اعمال اسلافه.
يذكر هاو انه في فصول الكتاب أراد ان يكشف للقارئ أوجه النظرية النقدية المختلفة، مشيرا الى طبيعتها المبرقشة متعددة الألوان، وتطورها التاريخي، غير ان اهم ما آمله ان أكون قد أشرت إليه هو صلتها بالراهن.
تأليف: آلن هاو
ترجمة: ثائر ديب
الحلقة 11
لماذا نقرأ النظريّة النقديّة اليوم؟
مدخل:
حاولت، في الفصول السابقة أن أكشف للقارئ أوجه النظرية النقدية المختلفة، مشيراً على طول الخط إلى طبيعتها المبرقشة متعددة الألوان، وتطورها التاريخي، غير أنّ أهمّ ما آمل أن أكون قد أشرتُ إليه هو صلتها المستمرة بالراهن. وأساس هذا الفصل هو الإعتقاد بأنَّ تراث النظرية النقدية، سواء في جيلها الأول أم في جيلها الثاني، مهمٌّ بفهم الحاضر، وأننا إذا ما تركناه يفضي لنا بما لديه فسوف يشقّ دروباً من الفكر خصبة وغنية.
وفكرة “الصلة” هي فكرة مراوغة. وفي مجال التعليم، كُنَّا قد شُجِّعنا في العشرين سنة الماضية على جعل ما يتعلمه الطلاب ذا صلة بالعالم الواقعي.. بمعنى أن نقدّم لهم معرفة بالعالم يمكنهم إستخدامها في تحسين موقعهم في سوق العمل. ومع إننا لا يسعنا أن ننكر ما ينطوي عليه ذلك من فضيلة، إلا إنّ إعطاء الطلاب معرفة من هذا النوع هو سيف ذو حدين. فالهدف المزعوم هو تعريف الطلاب بآليات إشتغال العالم المعاصر بتلك الطريقة التي تجعلهم مرنين حياله، متقبليّن لمعاييره وقيمه. وفي هذا المجال، لا تقدّم النظرية النقدية الكثير من العون؛ أمّا إذا كان هدف التعليم هو أنْ يروي الطلاب شيئاً من الكيفية التي يعمل بها العالم بالفعل، فإنّ دعاوى النظرية النقدية تكون مهمّة وذات صلة على طول الخط.
ومن المشاكل الأخرى المتكررة في العالم الأكاديمي، وفي علم الإجتماع خاصة، مشكلة الإنتاج المواصل لأفكار جديدة، ومفاهيم جديدة، وكتّاب جدد، كما لو أنّ الفرع المعرفي المعنيّ لا يني يكدّ وراء هدف يزداد تملصاً ومراوغة، إلا وهو ظهور هذا الفرع بمظهر الاهمية والصلة المستمرة. ولا شك أنّ المجتمع يتغيّر ويطرح صفّاً من الظواهر الجديدة التي ينبغي تفحّصها، لكن الفروع المعرفية التي تكتفي بمحاكاة هذا الميل عبر ضرب من التكاثر الذاتي الخاص بها إنّما تضعف نفسها إذ تتجاهل ما تراكم لديها من حكمة تبصّراتها التي كسبتها بالحدّ والعمل.
قد يكون أدورنو ذلك الشخص الممرور
لكن ذلك لا يعني أنّه كان على خطأ:
من الأكيد أنّ النظرية النقدية لا تزال تُقرَأ، غير أنّ ثمّة نزوعاً إلى وضع أعمال أدورنو وماركوزه وهوركهايمر في الفصول الأولى من المختارات في الدراسات الثقافية، حيث تأخذ موقعها كأعمال في الثقافة الجماهيرية يعوزها النضج وتتسّم بقدرٍ كبير من السلبية في ضوء ما بتنا نعرفه اليوم، وحيث يُزْعَم أنّ ما نعمله اليوم أفضل بكثير، كما لو أنّ الأمر قد تمّ تجاوزه وغدا شيئاً من الماضي. وترى مريام هانس(2002: 57-58) أنّ الاستقبال الحالي لكتابات أدورنو عن السينما والثقافة الجماهيرية “لا يتعدى كونه إيمائة شعائرية، تعيد تلاوة تلك الإتهامات المألوفة بالنخبوية، والتشاؤم، وحسر البصر الحداثي الرفيع”. ومع أنّ أدورنو ليس فوق النقد، إلا أنّ هذا الموقف يحول بيننا وبين الاهتمام بعمله بأيّ قدرٍ لازم من الجدية. ونحن نحيّد التحدي الذي يمثّله إذا نرفض النظر إلى عمله على إنه ذلك المصدر “الحي” الذي يمكننا من أن نتقصّى التوترات التي يشتمل عليها قبالة تلك التي تشتمل عليها أعمالنا. وبالمقابل فإنَّ فالتر بنيامين يحظى بإستقبال أفضل نظراً لما يبدو عليه من موافقة على انّ السينما هي تلك الأداة الديمقراطية التي تروق لكل من يلتزم فضائلها. فنحن نحبّ بنيامين لأنه يقول لنا إنّ من الحسن أن نستمتع بالسينما). أمّا النتيجة المترتبة على ذلك فهي إسقاط أفكار أدورنو وإعتبارها أفكاراً مدودة وأدنى. والحال، أنّنا نقرأ أدورنو وبنيامين إنطلاقاً من تفضيلاتها المعاصرة الخاصة غير المُفكَّر فيها. ولقد حاولت أن أبيّن في مناقشتي لهما في الفصل الخامس أنّ كليهما يستحقّان مزيداً من الإهتمام المدقق والمفصَّل.
إذا كان المجتمع، كما يقول جاكوبي (1977: 1-2)، “يتعلم أقلّ فأقلّ وأسرع فأسرع” وأنّ هذه العملية آخذة بالاشتداد اللآن، فلا بدّ أن ينتهي الأمر بتلك العادة الفكرية المتمثلة بتجاهل الماضي لمصلة الحاضر إلى الوقوع في شرك التصّور المتغطرس الذي يرى أنّ الجديد وحسب هو الذي يجب أن يسترعي إهتمامنا: فلأحدث هو الأعظم. وهذا الإهمال للماضي، بما في ذلك ما قاله كتّابه، لا يكتفي بنزع ذلك الإحساس باننا نتقاسم الكثير مع ما جرى من قبل، بل يتعدّاه أيضاً إلى استرداد أيّة فكرة ترى أنّ المستقبل يمكن أن يكون مختلفاً. ولقد غدا ذلك حجة إيديولوجية للدفاع عن الحاضر. وهذا ما حَمَلت عليه النظرية النقدية، الأمر الذي يجعلها لا تزال جديرة بالقراءة.
قد يكون هذا الركود العقلي أو “فقدان الذاكرة الإجتماعي”، كما يدعوه جاكوبي، ثمرة لتلك السيرورة ذاتها التي رأى أدورنو أنّها سيرورة أساسية بالنسبة للرأسمالية الحديثة، ألا وه “التشيّؤ”.
فالتشيّؤ هو ضَرءبٌ من النسيان نضيع فيه أثر أصول أفكارنا في سيرورة عيشنا إياها.
وعند أدورنو، أنّ المبدأ الرئيس الناظم للمجتمع الحديث هو العلاقات الإقتصادية الرأسمالية. ولقد عمل إشتداد التراكم الرأسمالي الذي تزيّا بزيّ “العولمة”، خاصّة منذ ثمانينيات القرن العشرين وإلى الآن، على زيادة السرعة التي تُنتَج بيها السلع وتُستَهلك عبر العالم. ولو نظرنا إلى الأفكار على أنّها “سلع فكرية” لرأينا أنّ العملية ذاتها هي التي تفعل فعلها. فالأفكار تغدو على الزي الدارج، وتُستَهلَك ثم تتلاشى بسرعة كما تفتح المجال لأفكار أخرى. وهذه سيرورة تترتَّب عليها آثار، لا بالنسبة للماضي وحسب بل بالنسبة للمستقبل أيضاً. فمن غير إحساس بالقدوم من مكان ما لا يكون ثمة إحساس بأنَّ العالم يمكن أن يتحرك إلى مكان آخر. و ما تتمسك به النظرية النقدية هو إمكانية أن تكون الأشياء مختلفة.
عادةً ما يُوصَفُ أدورنو بانه الأشد تشاؤماً بين المنظرين النقديين، وبأنه لا يجد أيّ شيء ذي قيمة في العالم الحديث. وعند هابرماز، أنّ ذلك ينبع من إفتقار أدورنو إلى تناول وافٍ للذات عن طريق الفعل التواصلي، في حين يرى آخرون أنَّ ذلك هو ضَربٌ من المبالغة المتعمدة في مناهضة الإمبريقية. وبمعنى ما، فإنَّ الطرفين كليهما محقّان.
كا أدورنو في تناوله الخاص، يبالغ بالأشياء كيما يجعلها واضحة. بل إنّه أعلن ذات مرة أنَّ “المبالغة وحدها هي الصادقة” (أدورنو وهوركهايمر 118:1972).
ففي مجتمعٍ مشوَّه لا يمكن إبراز “معيارية” التشوّه الإمبريقية المزيفة إلا من خلال المبالغة.
وهو لا يحاول أن يدرأ نتائج ومؤديّات ما يراه واسماً لعالمنا باللجوء إلى التحليل الإمبريقي “المجرّد” بل يسعى لأن يكشف ما يكمن خلف مظهر الأشياء المختلف. وما أريد قوله، في ضوء الثلاثين عاماً الاخيرة، هو انه لم يبالغ بما فيه الكفاية في حقيقة الأمر. فما خشي منه أدورنو هو أن يسيطر الشكل السلعي على الحياة برمّتها. وهو يقول بشأن الفيتشية الموسيقسة:
الموسيقا، بكل الصفات الأثيرية والرائعة التي تُنْسَب إليها، تعمل في أمريكا اليوم كدعاية للسلع، التي يجب على المرء أن يمتلكها كي يسمع موسيقا. وحين تُكْمَد الوظيفة الدعائية ذلك الكمد المتعمد في الموسيقا الحادة الرصينة، فإنها لا تلبث أن تبرز في الموسيقا الخفيفة… عددٌ لا يحصى من نصوص الاغاني الرائجة يطري الاغاني الرائجة ذاتها، مكرّراً عناوينها بأحرف كبيرة … ] حتى إنَّه [… لم يُبقِّ أقل قدر ممكن من المتعة.
(أدورنو 1991: 33-34 أو أدورنو وغيبهارت 1978: 278-279).
وعند أدورنو، أنّ المستهلكين حين يشترون بطاقات حفلة موسيقية إنّما يتعبّدون المال الذي دفعوه لتلك البطاقات. فالمستهلك يحقّق نجاحاً للحفلة بشرائه البطاقة، وليس بإعجابه بالحفلة. وبلغة ماركسية، فإن القيمة التبادلية للسلعة قد حلّت شيئاً فشيئاً محلّ قيمتها الإستعمالية. فقيمة “الشيء” بالنسبة لنا تبدو على أنَّها قيمة التبادلية، التي هي في الواقع مّما يقرره السوق الرأسمالي. فنحن نتماهى مع نجوم “سلع” صناعة الثقافة، ونستمتع بهم كما لو أنهم يخاطبوننا شخصياً وبذلك نضحي بفرديتنا بجعل أنفسنا طيعة لهم تماماً. هكذا يكون سعر فرديتنا هو ثمن السلعة.