فلسفة وضعت الجنس البشري وجهاً لوجه مع واحدة من الاجابات الاكثر رديكالية
روما: موسى الخميسي
كتاب الديانةُ الـغـنوصية تأَليف الأُستاذ الباحث الأَلماني (هـانس يوناس) ـ تـرجـمة ومراجعة وتـدقيق النصوص المندائية الارامية، الدكتور صباح خليل الـدهـيسي، الحاصل على شهادة الدكتوراه في الدراسات السامية والغنوصية والمندائية من جامعة لندن، عضو اللجنة الدولية لتوثيق اللغات المهددة بالانقراض باشراف مدرسة الدراسات الشرقية والافريقية التابعة لجامعة لندن. صدر الكتاب عن دار (تموز) للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق، أَربـع مئةٍ وعـشرون صفحة من القطع الكبير.
الديانة الغنوصية، فلسفتها اللاهوتية وموطن وتاريخ نشأَتها وفِـرقُـها وتـأثيرهـا على الأَديان الأُخرى، هي ركائز البحث في هذه الفلسفة القديمة التي كانت مستهدفة منذ بداية نشأتها، ولهذا خضعت لتأمل وتدقيق من قبل الذين مثلت لقضيتهم تهديدا بالهدم. وبدأ التحقيق الذي جرى خلال احتدام الصراع، الذي تبناه آباء الكنيسة الاولى الذين قدموا قضيتهم ضد ما سموه الهرطقات.
حَـفـل الكتاب بصعوبة كبيرة في لـغـة الكثير من موضوعاته للذي يحتاج من يـريـد قـراءَتَـهُ وفهم مـا إِحتواه فهماً تاماً للغنـوصـية أَن يكون ذا خلفية ثقافيةٍ واسعة في الأَديان القديمة وفلسفاتها كالفرعونية والبابلية والزرادشتية والهندوسية وكذلك اليهودية والمسيحية وفلاسفة اليونان وفلاسفة القرون الوسطى وما جاء في العـقيدة الصابئية المندائية من مفاهيم في الخلق والنشوء وثـنائية النور والظلام.
الغنوصية مبدأ ( عـقـيدة ) يقول بـأَنَّ الخـلاص ( الروحي ) لا يتحقَّـق إِلاّ مـن خـلال المـعـرفة الباطنية وسبقت هذه العقيدة في ظهورها المسيحية وازدهـرت في القرنين الأَول والثاني بعـد الميلاد وكانت مَـثار جـدل كبير ، ويرى الكثيرون بـأَنَّ الغنوصية هي نتاجٌ للتلفيقية التي نشأَت عن التفاعل ما بين الفكر( الـهلـنستي ) والمعتقدات والأَفكار الشرقية ، البابلية والفرعونية والفارسية والهندية من جهةٍ وبين اليونان وفلسفتها التي أَثـَّرَتْ بقوة على الغنوصية ، والمفاهيم الإِفلاطونية التي تركزعلى التضاد ما بين المادةِ والروح والنظرية (الرواقية ) التي تقول: بـأَنَّ كل شيئ لشرارات العقل الإِلهي ، الذي يحتوي كل شيئ في داخله ، والأَفكار الفيثاغورية الجديدة من جـهـةٍ ثانيـة .
وقـد تأَثَّـرتْ الفرق الغنوصية في الشرق كالمانوية والمندائية وجماعة الحِسِح والديصانية بـ ( الـثنـيويـةِ الزرادشتية ) من بلاد فارس القديمة . في حين اعـتقدت الأَنظمة الغنوصية السورية ــ المصرية إِنَّ هـذه الثنيوية هي فيض أَو صدور عـن الله المـغترب ذاته اتـخَــذَ سبيله الهابط نحو الأَرض. وإِنَّ الـروح الإِنسانية هي قبسٌ أَوشرارةٌ من روح الله وقعت في ظلمة المادة ، ونسيت أَصلها والإِنسان في هـذه الحياة أشبه بالجاهل أَو النائم أَو السكران ، عليه أَن يستيقظ ويبدأ في رحلة المـعـرفــة التي ستوفـر لـه الإِنعتاق وبلوغ الـبليروم ( عالم المـلأ النورانـي ) روحياً ، فالخلاص الذي تبشرُ به الـغـنـوصية ليس خلاص الأَجساد بل خلاص الأَرواح ، إِنـه خلاص من الجسد ومن العالم المادي في آنٍ معاً شكلت هـذه العقيدة ( الغنوصية ) خطراً كبيراً على المسيحية في القرون الأولى بسبب التشابهات بينهما واتَّخذَ الغنوصيون بـوصفهم أَهل الإِيمان الـصحيح ، موقفاً شـديـد العـداء من تلك المسيحية الناشئة ، مما أَدى إِلى دخولهما في صـراعٍ طـويلٍ ومـرير . وابتدأَت كنيسة روما ، بعد ما اشتـدَ ساعـدها في منتصف القرن الثاني حملةً واسعة النطاق ضد الطوائف الغنوصية وعدتها ( هـرطقات ) يجب محاربتها بشتى الوسائل ، وانبرى عــدد من آباء الكـنيسة ، مثل ــ تورتوليان ، وكـليمانت الإِسكندري ، وأوريـجين ، وإيـرناوس ، وهيبوليتوس وغيرهم ــ لـدحض الفكر الغنوصي وإِظهار زيفه وبطلانه وعندما تحوَّل الإِمبراطور قسطنطين إِلى المسيحية في عام 380 ميلادية ، بـدأَ رجال الـكنيسة بملاحـقةِ واضطهـاد الهراطقة وصار اقتناء الكتب الغنوصية جريمة يعاقب عليها القانون ، كما أَطلقت الكنيسة حملة تفتيش واسعة النطاق على هذه الكتب وأَحـرقتها . في نهاية القرن الثالث بـدأَت الغنوصية بالإِنحسار أَمام معارضة واضطهاد الكنيسة التقليدية التي بذلت كل جهودها في قمع الحركة الغنوصية التي كانت تفتقـر للتنظيم، فتلاشت إِلى درجة كبيرة
وتحوَّلَ أَتباعها إِلى المسيحية. أَما في الشرق فقد اختفت الفرق الغنوصية من الوجود أَو ذابت في مجموعاتٍ أَخـرى نتيجة الإِضطهادات التي مورست عليها من قبلِ الأَديان الأُخـرى، ما عـدا قـلةٌ قليلة جـداً منهم استطاعت أَن تستمربالبقاء إِلى يومنا هـذا، وهـم الـمـنـدائيون الطائفة الناجية الوحيدة من الفرق الغنوصية الذين يتواجدون في جنوبي العراق إِلى اليوم.
كان للغنوصية تأثيرٌ كبيرعلى العديد من العقائـد والأَديان في القرون الأولى بعد الميلاد وازدهرت في أَغلب بلاد الشرق الأَوسط ولا سيما في مصر، وتمثلت في صورٍ وأَشكالٍ مختلفة منها الغنوصية اليهودية والمسيحية، كما سيطرت على فلسفة التصوف في الإِسلام، ومَـثَّلت نوعاً من المعـرفة الصـوفية.
هـانس يوناس استثمـرَ شغفه بالغنوصيةِ ـ طارحـاً أَنها السلف البعيد للوجودية الحديثة ـ في أَول عـملٍ لـه شامل باللغة الإِنجليزية لإستكشاف السبل المختلفة للفكر والميتافيزيقيا والميثولوجيا واللاهوت التي أَلفت ثنيوية الغنوصية ونظامها ـ الهـرطقي ـ فقدَّم في كتابه (الديانة الغنوصية The Gnostic Religion) تـفـسيراً عـميقاً لهذا الخليط من الفلسفة والمـيثـولوجيا الذي يؤلف التراث الـغـنـوصي . ثـم أَضـافَ في الطبعة الثانية من هذا الكتاب مقالاً عـنوانه (الغنوصية والوجودية والعدمية) وهو يخبرنا في هـذا المقال أَنـهُ ما أَن بـدأَ في دراسة موضوع الغنوصية حتى وجد أَنَّ مفتاح التفسير المؤدي إِلى فهم تعاليمها الغريبة موجود في مفاهيم الفلسفة الوجودية ولكنه اكتشفَ من جهةٍ أَخـرى أَنَّ الـغـنوصية من جانبها تلقي الضوء على الوجودية المعاصرة ، وفي رأيـهِ أَنَّ هـذا لا يمكن أَن يحدث إِلاّ لأَنَّ هـناك قـرابـةٌ عـميقـةٌ بين الإِثـنتين .وهـو يـرى أَنَّ أَساس هـذهِ القـربى يكمن في لـونٍ من النـهلـستية ( العدمية ) الكونية Cosmic Nihilism ـ التي تأَثـَّـربها الإِنسان في القرون الوسطى من العـهـد المسيحي ثم أَثـَّـرَت في الإِنسان مـرةً أَخـرى في يـومنا الـرّاهن .
يقول مترجم هذا الكتاب « لم يكن سهلاً البتة تـرجمة نص هـذا الكتاب، ولكن معـرفتي باللغة الآرامية / المندائية سَـهَّـلَتْ عـليَّ مـراجعة النصوص القديمة التي ترجمها المؤلف ـ هـانس يـوناس ـ من الأَلمانية إِلى الإِنـجليـزية ومقارنتها بالنص الأَصلي والتأكـد من صحتها
وتـصويب ما كانت ترجمته خاطئة، وربما كان هذا واحـداً من الأَسباب التي دفعت إِلى احجام الكثيرين دخول هـذا الموضوع الشائك من البحث. كـما أَوليتُ أَهـميةً خاصةً إِلى توضيح الكثير مـما ورد في كتاب (الديانة الغنوصية) في هوامش ملحقة حتى يتسنى للقـارئ متابعــة العمـل بسلاسةٍ).