علي سعدون
لا تنطلق رواية محمد غازي الاخرس «ليلة المعاطف الرئاسية» من ثيمة الخوف والرعب وأجواء الكابوس فحسب، إنما تساهم في صنع ترسيمة متقنة للتقهقر الشخصي الذي ينتاب شخوص الرواية، بقطع النظر عن تكوينهم السردي ( شجعاناً كانوا أم ابطالاً مفترضين) ففي كلا الحالين تسيطر هالة الرعب والخوف على كل مجريات حيواتهم المستلبة والشاحبة، الأمر الذي يشي بوضوح بالغ، أن هذه الرواية الجديدة التي تبتكر المسوغات لأداء مختلف في كتابة الرواية، تعمد إلى أكثر من خطاب لاستعادة التاريخ من منظور شخصي لا يتقاطع مع الذاكرة العامة، لكنه يتقدمها في رؤية شخصية تعبر حدود الالم في إنتاج خطاب فني يريد أن يغاير في التعامل مع الموضوعة الشائعة، موضوعة القمع التي تتكرر في سردها وشخوصها.
«ليلة المعاطف الرئاسية» تريد لنفسها أن تنتظم في صف الروايات التي تغامر في تحشيد أكبر كمية من الألم وتبثها في وجه القارئ، غير عابئة بردود الفعل الانسانية التي تتوخى المتعة في القراءة ابتداء وتبحث عن فسحة الجماليات ومشاهد المهمل من الحياة ؛ وصولاً إلى ما عهدناه في أكثر من نموذج روائي يعمل على حفريات التاريخ والمعرفة والاشتغال على كتابة المنطقة المسكوت عنهما فيها.
هذه رواية لا تراهن على ذلك كله. لا تريد أن تتسلّى مع القارئ – قارئ الروايات التقليدي على وجه التحديد -، إنها تطمع بأكثر من ذلك، وستختط لنفسها نمطاً تسجيلياً لتدوين البوح الشخصي الذي ينبعث من مخيلة الأخرس بمقصديات تبدأ ولا تنتهي. وسيكون ذلك علامة فارقة في هذه الرواية، أعني أنها رواية تسجيلية مخضبة بالنواح كله، نواح الاستلاب والرعب الذين كانا يتفشيان على مساحة البلاد من أقصاها إلى أقصاها، يستحضرها بمجملها دفعة واحدة دون أن يترك فسحة من الأمل أو الاسترخاء في متن الرواية. ولم نكن لنشعر بعزاء يعوض ذلك القنوط الموجع، لو لا تلك السخرية المحببة واللذيذة المبثوثة في أكثر من مفصل من مفاصل الراوية، وقد عملت على كسر افق التوقع في مشهديات الرعب نفسه، وهي لعبة يجيدها محمد غازي الاخرس نفسه (الاخرس كاتب المقالة الساخرة) فتتحطم على صخرة ذلك الوجع كوابيس وجحيميات المشهد المأساوي الذي ينحرف به الاخرس إلى منطقة للدعابة أحياناً أو الكوميديا السوداء. وهذا الأمر بتقديري الشخصي لن يكون سهل المنال في متن رواية تتحدث عن الرعب وتصنعه وتحتفي فيه بطريقة عجيبة. وعليه فثمة مخيلة حاذقة تقف وراء الأداء المبهر في هذه الرواية التي تشي بلغة وإداء جديدين.
رواية «ليلة المعاطف الرئاسية» رواية مبهرة، وذات إيقاع مختلف وأداء يكاد يكون شخصي ومتفرّد في الكتابة الروائية / رواية ما بعد الحداثة على وجه الخصوص، في كل ما تنشده من معطيات البحث في تخوم الحياة وصناعة تمثيلاتها التي يتفوق فيها الخيال على الواقع ويكون بدرجة اقناع على قدر كبير من الأهمية. هذا ما حدث بالضبط في الليلة الرئاسية القاسية عند الأخرس. الليلة الواحدة التي تمتد الى مسافة طويلة تتعدى ثلاثة عقود من الزمن.
زمنان لغويان متنافران!
يندر أن يتنبّه الروائي إلى الأداء اللغوي في روايته عندما تستدعي الموضوعة طريقتين للكتابة، أعني حاجة الرواية الى تقسيم اللغة الى أداءين في رواية واحدة. يحدث ذلك بسبب أن الرواية تجري بخطين مختلفين، أحدهما واقعي يسجل فيه الأخرس مشاهداته التي تغنيها تجربته الشخصية وما تراكم عنده من الخبرات السردية وحفرياتها النادرة، فتجعل من التوصيف لافتاً ومميزاً. في حين يجري الخط الآخر في الرواية بطابع فنتازي يحمّله الاخرس بوحاً تخيلياً غريباً في التفجيع والرعب، حتى لتبدو شخصياته في تقهقر ونكوص وارتداد على الدوام (تبدأ الرواية في اختطاف القارئ الكاتب، وتنتهي بجعله – اي هذا المُختطَف نفسه- في مشهديات العلاقة الحميمة مع الجنرال كوكز) حميمية الرعب والدهشة الناتجة عن تلك العلاقة المركبة. وقد انتجت حفلة الرعب الطويل هذه (استناداً لأشعار الخاتون) واحدة من قضايا المسكوت عنه وهي كذبة الاستبسال وترويجه / استبدال الهتاف الساذج بمنظور الشجاعة الفائقة في الحروب العبثية !. ما يشير إلى تقهقر يحدث في الوقائع العراقية على مدى تاريخها الاستبدادي الطويل، وفضيلة الأخرس في هذه الرواية إنما كانت في ترسيخ هذه الخصيصة باعتبارها من ملامح وسمات المغلوبين العراقيين، وهم كُثر بطبيعة الحال. وقد عمل الروائي على التفارق بين لغتين تتبنيان الأداء في شقيه الواقعي والفنتازي. ذلك أن الشخصيات الساردة في منطقة الواقعي في الرواية تتفارق لغتها وبلاغة بوحها عمّا اجترحته لغة الساردين في منطقة الفنتازيا. وهذا الاجراء في التمييز والفصل بين نوعين من الخطاب في الرواية الواحدة، يكاد يكون نادرا وعصيا على كثيرين من كتّابها. ذلك ان الامر يحتاج على مهارة ودقة عاليتين.
حبكة المعاطف الرئاسية في ليلتها الوحيدة !
ينفرط عقد الحبكة في أية رواية تفقد شرط الامتاع، الامتاع بوصفه قدرة الكاتب على تمرير بوحه في لعبة السرد المشوقة، الحكائي الذي يندلق ويتصاعد إلى ذروة الحدث.. وبالتالي، ستجيئ متعة هذه الرواية من خلال الحبكة القوية التي يمسك الروائي بجذوتها بطريقة ممتازة. حتى وإن بدت مساحة عريضة من مشهديات الرواية – قاسية ومخيفة – ، إذ تجثم على ذهنية القارئ كوابيس لا حصر لها في فانتازيا الاخرس وخطابه الواقعي على حد سواء، لكنه – أي القارئ- لم يكن بمقدوره أن يدير ظهره لنوع من الذوبان في قراءة الألم الغابر في وطن يضيع وينكسر ويذوي شيئا فشيئا. وبالتالي ثمة استبدال لوظيفة الإمتاع في هذه الرواية ، فبدلاً من التشويق الذي يتجه صوب المتعة، صار هناك ما يمكننا نعته بالتطهير الذي يشد القارئ إلى رؤية روحه وجسده الشخصي في متن الرواية. انه نوع من «التطهير الارسطي» اذا جاز التعبير، تفريغ لشحنات العنف العراقية الطويلة التي يحملها الفرد بطريقة باطنية وتحملها الجماعات بصورة معلنة تشي بالقبح الهائل الذي يغلف وجدان مرحلة سياسية واجتماعية من تاريخ العراق.. اوجاع الضمير الذي لم يعد ساطعاً، والتوحش الهائل الذي يأخذ بالأفراد والجماعات الى حتفها وفقا لبراهين متعددة في ليلة المعاطف الرئاسية.
هذه الرواية تسجل بحفريات مروعة تاريخاً من الهزيمة الشخصية للحياة المدنية في العراق، الحياة التي لم يكن بمقدورها أن تغادر «العسكرة» مرغمة أو طائعة، وهي بذلك تفضح الأزمة الخطيرة لتحولات الانسان العراقي بالغة الحراجة، وبالغة التأثير الطويل على حيوات أبنائه دون أن يشتعل في الأفق بريق ضمير جديد يشي بالنسيان. ليلة المعاطف الرئاسية لمحمد غازي الاخرس تريد أن تقول ان الذاكرة المفعمة بالألم ماتزال قادرة على البوح وهي لم تغادر ذلك المصير المرعب والفنتازي الذي يتجدد كلما مرَّ منعطف حاد في تاريخ العراق.