انبعاثُ وردة
روبين داريّو
ترجمة: د. بسّام البزّاز
سأقصّ عليكِ، يا صديقتي المسافرة، حكاية
كان لرجل وردة
وردة نبتتْ في قلبه
تصوّري! كان يرى فيها كنزه وذخيرته
كان يرعاها بحنان
الوردة الحبيبة الرقيقة كانت معبودته الغالية
يا لآيات الرّبّ!
والوردة كانت أيضا عصفورا، عذبة الكلام، ذكيّة العطر. لشذاها تأثير دفق سحري لطيف كدفق منبعث من نجمة معطرة.
ومرّ عزرائيلُ ذات يوم ببيت الرجل السعيد، فسمّر نظرَه في الوردة، فارتعشت المسكينة وداخلها الألم والحزن. فعزرائيل هو ملكُ الموت الشاحبُ القاسي. راحت الوردةُ المحتضرة تلفظ آخر أنفاسها وتجود بما تبقى لها من رمق، فامتلأ بالغمّ والحزن قلبُ من كان يرى فيها أنسَه وسعادته. فرفع بصره صوبَ الإله الطيّب وقال:
– يا إلهي! لمَ تريدُ أن تسلبني الوردة التي أنعمتَ بها عليّ؟
ورقت في عينيه دمعة أبويّة مسّتْ شغافَ قلب الإله الرؤوف، فتفوّه بهذه الكلمات:
– يا عزرائيل ! دع الوردة تنعمْ بالحياة، واقبضْ بدلها، إن شئت، أيّة واحدة من ورود حديقتي الزرقاء.
فاستردّت الوردةُ سحرَ الحياة.
في ذلك اليوم، رصد أحد الفلكيين، من مرصده، أفولَ نجمة.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
*بانتظار جمال أسفل التاغادا
نيكولا غواليانوني
ترجمها عن الإيطالية يوسف وقاص
تعرّفت على فيولا أثناء عودتي من تورونتو، حيث كانوا قد أرسلوني لإعادة كتابة سيناريو لشاعر فرنسي كان قد وضع في رأسه أن يمارس الإخراج. ثم كان سيتمّ تصوير الفيلم, لاحقاً, في نفس المكان.
ولكن هل يصنعون أفلاماً في كندا أيضاً؟ ألا تكون نفس القصة الحميمية، الوجودية الجديدة أو السارترية؟ وقبل كلّ شيء هل كانوا سيدفعون أجرتي؟ كنت في أثر ليوني، سكورتسيزي، كالياري, ومن الكنديين كنت أعرف فقط سترات الحطّابين والبرد الذي كانوا يقاومونه بنفس السترات. لم يكن يهمّني أي شيء آخر عدا ذلك.
كنت أحاول أن أكتب قصة فيلم، فيلمي أنا. كنت قد وصلت إلى النهاية تقريباً … نعم، باختصار،الاستعراض المعتاد لأعوام التسعينيات – جدال مراهقين وسط لفافات من الحشيش، نساء وبطالة – ولكنه يبقى دائماً فيلماً، وحالما انتهي من كل ما يجب عليّ أن أفعله، سأرسله إلى أحد المنتجين. حتى لو أنهم لن يفتحوا المغلّف أبداً، سأكون على أي حال واحداً من أولئك الذين يبعثون السيناريوهات إلى شركات الإنتاج. كان بإمكاني أن أمضي قدماً هكذا لعدة أعوام أخرى، ويا حبّذا، دون أن أجهد نفسي كثيراً.
في يوم من تلك الأيام الصيفية عديمة الفائدة، التي زادت من حدّتها عدم وجود جهاز مكيّف في السيارة، لأنني كنت في قيظ أول الظهيرة جالساً على مقعد أمام منصّة بائع سمكات الزينة الحمراء في حديقة لونيور، ديزني لاند روما الجنوبية. ثمان وستين ألف متر مربع في قلب حي «يور»، محاط بهندسة معمارية فاشية، بحيرات اصطناعية وعاهرات.
كان مزوّدي قد حدّد لي موعداً في هذا المكان. لما كنت ذهبت إليه مطلقاً في فصل آخر من العام، ولكن في شهر آب كان أملي الوحيد لأجلب إلى البيت بعضاً من الحشيش متوسط النوعية. كان جمال شخص أرعن ومسكين، تونسي، الذي كان يمضي نصف حياته في سجن ريجينا تشيللي, والنصف الآخر في ترويج المخدرات. كنّا قد أصبحنا أصدقاء بعدما طلب مني في إحدى الأمسيات أن اصحبه بالدراجة النارية إلى قسم الإسعاف في مستشفى سان كاميللو. وافقت لأنني اعتقدت أنه مريض, أو أنه كان يريد أن يزور أحداً ما. إنما كان يريد أن يبيع مثقباً لأحد الممرضين. كنت قد استلطفته فوراً.
كنت أنتظره بالفعل منذ نصف ساعة بين التاغادا والعجلة البانورامية– نفس العجلة التي كنت أراها وأنا طفل بينما كانت تبتعد خلف الزجاج الخلفي للسيارة بين غيوم النيكوتين، في كل مرة عندما كنا نرجع فيها من عطلة الصيف ونمر من حي يور. كان البالغون حينها لا يشغلون بالهم من التأثير السلبي لدخان التبغ ولا بفتح النوافذ.
مكان مريع مدن ملاهي آخر القرن، بقايا ترفيه تمّ دفنها تحت حطام الكآبة، يسكنها أموات أحياء يبحثون عن النسيان.
الشمس فوق الرأس والقدمان تطفحان بالعرق داخل حذاء سْتَان سميث، ولكن لماذا لم أغادر بعد؟ ربّما السمكات الحمراء فقط هي في وضع أسوأ من وضعي. سجينات داخل أكياس من النايلون تحتوي على سائل مغلي، مُعَلّقة على خطّافات ملونة. على الأقل هنّ محظوظات لأنهنّ لا تتذكرنَ أي شيء كل عشر ثوان.
في الحقيقة, سارة تركتني من أجل فنان ينحت تماثيل إتروسكية, وأنا كنت لا أستطيع أن أواسي نفسي. كانت قد غادرت البيت وأخذت معها أربع حقائب مليئة وكنزة الكشمير لنيمان ماركوس التي كان قد أهداني إياها في عيد الميلاد. كانت قد تركت علب الأحذية الفارغة فقط، متناثرة فوق الأرضية لتلك الشقّة المؤلّفة من حجرة واحدة في شارع دي كابيللاري, والتي كانت قد تحوّلت فجأة إلى خزانة تعمّها الفوضى.
لما كنت رأيتها ثانية أبداً وهي تختار ستار الدوش، تطهو على الطريقة المكسيكية، تشدّ عنق زجاجة نبيذ أحمر، تستهلك لفافات من ورق التواليت، تورّطني في حميات غذائية لغاية اليوم الذي كانت تستسلم بفشل ذريع وقد أنهكها الجوع. يكفي أن أعثر على النقود لشراء تذكرة إلى نيويورك -كنت أفكّر. لكنت سافرت، ووجدت عملاً ودفعت كلفة دورة في الإخراج السينمائي لدى NYU. وربّما، من يدري، لكنت تعرفت على امرأة حياتي ولتذهب سارة إلى الجحيم وكل فنّاني النحت الذين يعملون على شاطئ اللاتسيو.
اثناء ذلك، بينما أحد ما كان يقصف بلغراد، كانت عائلة غبيّة تحاول أن تصيب المصابيح بكُرات البينغ بونغ. كانوا سيئين في التسديد، أصوات نشاز وابن غليظ.
كان عليّ أن ابتكر شيئاً ما لأخفّف من قلقي. عادة ما كنت أمارس الرهان. كان مجدياً دائماً تقريباً. عشر كرات: اثنتان تصيبان الهدف ولكان جمال قد وصل خلال بضع دقائق، ثلاثة أخطاء ولكنت قد عدت إلى البيت. أعود إلى البيت! ولكن بسمكة حمراء.
خارج اللانيور كانت توجد سيارات مركونة، أناس يعبرون، جداجد, وكانت هي موجودة أيضاً: فيولا! كنت لا اعرف أين أتوقف بنظري. كانت تمشي متباهية وواثقة من نفسها، وهي تجرّ خلفها اللطافة، الجنون والسخرية. ربما بسبب جزمات كيرل بوي, كانت تُذكّرني بديزني ديوك، أجمل ساقين في العالم.
«تبدينَ وكأنكِ خارجة من أحد مسلسلات الستينيات».
«لماذا؟».
«فلنشرب الجعّة وسأرويه لك».
بعد أربعة أشهر، كنت في سريرها الياباني أتصفّح الجريدة لاختيار أي فيلم نريد أن نذهب ونشاهده في السينما، رغم أننا كنا نعرف، نحن الاثنين، أنه لا شيء ولا أحد في العالم لكان استطاع أن يزحزحنا لا من تلك الشقة ولا من ذلك السرير. كان يجب الاستحمام، اختيار الملابس التي يجب ارتدائها، العثور على السروال الداخلي في قعر الملاءات، التعرّق، عقد رباط الأحذية، تقديم الطعام للقطّة، الشكوى من كمية الطعام الذي تلتهمه القطّة، تنظيف الأسنان بنفس الفرشاة، ومن ثم، ربّما بسبب طيف ابتسامة معكوس في المرآة، أن نبدأ من جديد. فمن الأفضل ترك فكرة الخروج فوراً وأن نبقى هناك نمارس الحبّ طوال الليل والنهار. كان عيد الميلاد قد حلّ من جديد. كنت محظوظاً في تلك المرة أيضاً. كان جمال قد دخل السجن مجدّداً والسمكة كانت ميتة.
*ضفة ثانية