الانا والآخر وقلق الواقع

علوان السلمان

النص السردي..مغامرة حالمة.. كاشفة.. رائية.. متجاوزة للواقع يخوض غمارها منتج(قاص) بلغة مشحونة بايحاءاتها الخالقة لمشاهدها المستفزة لذاكرة المستهلك(القاريء) والنابشة لخزانته الفكرية للاجابة عن اسئلتها والكشف عما خلف الفاظها الرامزة وتشكلها الجمالي الرافض للتأطير..والموقظ لمكامن الشعور..
انه صورة من صور الوعي الاجتماعي الذي هو انعكاس للوجود الاجتماعي..وسيلته اللغة وغايته الاسهام في بناء الانسان وتهذيب الذوق..اذ يتحول فيه المستهلك(القاريء) الى فعالية مشحونة بالحركة والتساؤل..
وباستحضار المجموعة القصصية(أنا والآخر) التي نسجت عوالمها النصية انامل القاص نهار حسب الله واسهم الاتحاد العام للادباء والكتاب في العراق على نشرها وانتشارها/2018..كونها نصوصا تتشكل على وفق تصميم قائم على التكثيف والايجاز والاختزال مع اقتصاد لغوي ينم عن اشتغال عميق يعتمد التقاط الجزئيات وصياغة رؤيوية ترقى من المحسوس الى الذهني..اضافة الى انها تنسج عوالم الروح والوجود من حيث (شكلها وصداها لا من حيث المعنى) على حد تعبير سارتر..كونها نصوص تولد من خيالات حوارية مستندة على مقولة فاعلة فعلها لاحد المبدعين تشكل بؤرة السرد وعلى وهج عاطفة المنتج تنضج كفعل قصصي قصير جدا حالم.. مستبطن اسرار الآخر النفسية ومحقق لها..
(أحصيت ايامي بعدما تنبهت لحبيبتي وهي تقطف الشيب من لحيتي..ولم أنزعج او استغرب من تجاوزي الخمسين من العمر ولا حتى من خصال الفضة التي رصدتها شريكة عشقي..نصف قرن من الكد وانا مازلت اعيش سهراتي الحمر في نهاية الاسبوع واستكمل غزلي الصباحي عبر الهاتف وانا منطلق الى عملي بهمة شاب عشريني..كنت اقرأ في اليوم ساعة او اكثر واستمع لموسيقى الكمنجات السريعة مما يؤكد فاعلية حواسي الخمس على نحو جيد.. وفي احدى قراءاتي للاديب المصري الكبير طه حسين اعجبت بمقولته(طوبى لمن جمع بين همة الشباب وحكمة الشيوخ)..وكأنه كان يثني على تنظيم حياتي..ولا أخفي دوره الكبير في حثي على استرجاع شكلي الشبابي واخفاء لحيتي البيضاء..ولكنني لم أجن من شكلي الجديد سوى خسارتي لذلك الشاب الكامن بداخلي والحكيم القابع في فكري..مما افقدني لذة الحياة بطبيعتها وألصق بي وصف التصابي..) ص9 ـ ص10..
فالنص يتأسس على اضاءة معبرة عن لحظة شعورية مكتنزة باضائتها ومنسجمة بايجازها الدال على حقلها الدلالي فكريا ووجدانيا بمواءمتها للعصر باسلوب حداثي يشير الى زخم من التكثيف الاسلوبي والفني لتحقيق فعله بما يحمله من معنى ايحائي مكتظ باسلوبية التضاد المعبرة عن الحالة النفسية المأزومة..مع تعدد ظلال الرؤية المنبعث من دائرة الوعي السردي المؤطر بعوالمه المشهدية ودلالاته الموحية بتقنيات فنية واسلوبية كالتنقيط(النص الصامت) الدال على الحذف والذي يستدعي المستهلك(المتلقي) لملء سواداته..اضافة الى الرمز الاستعاري الذي هو اداة فكرية للتعبير عن قيم غامضة لغرض تصعيد التكنيك السردي..اذ فيه تسمو التجربة بتوليفة تجمع ما بين الواقعي والتخييلي..
(منذ صداقتي الاولى مع القلم..بدأت أسطر ما أؤمن به من وجهات نظر وآراء أزعجت السلطات وهو الامر الذي عرضني للملاحقة والتشرد..لم أكن خائفا مما قد يواجهني من متاعب ..لا بل كنت اجد متعتي وجل سعادتي ساعات الهرب..لا لأني أحد أبطال هذا الزمان ولكني كنت مؤمنا بمقولة المؤلف الفرنسي البير كامو(الثقافة هي صرخة البشر في وجه مصيرهم..) ويوم انتهت اللعبة وجدت نفسي ماثلا أمام المشنقة أردد المقولة ذاتها لأخيف المصير الذي ينتظرني..الا انه ما من شيء تغير سوى حبل الاعدام الذي التف بارادته حول عنقي..) ص76 ـ ص77..

اختزال النص
فالمنتج يترجم احاسيسه وانفعالاته الداخلية لخلق نص رؤيوي متميز بعمقه ودراميته المحركة لعوالمه..اذ انه يركز على العناصر الشعورية والنفسية الخالقة لجدلية(الذات والموضوع) بترجمة ما يدور في ذهنه وفي دواخله من انفعالات منتجة لنص الرؤيا في اطاره البنيوي مع تجاوز المألوف والانطلاق في فضاء الوجود الكوني وصولا الى اللحظة الانفعالية المولدة للوظيفة الجمالية المتمثلة في الادهاشية المفاجئة ليكون خطابه محققا لوظيفته الانفعالية باستعمال الطاقات الحسية والصوتية والفكرية عبر بناء يفجر اللغة باستثمار خصائصها بوصفها مادة بنائية لصور ايحائية تتكىء على الايجاز والاختزال واثارة الخيال بتوظيف المجاز المعبر عن لحظة التوهج…مع نهاية خاطفة متعالقة والعتبة الاستهلالية ونتيجة لها..كونها تبلور الرؤيا النصية المعبرة عن الذات فتعكس القيمة الحقة للروح الانسانية وما يختمر بين طيات فكرها بقدرة تعبيرية متكئة على رمزية تكتنزها البنية النصية المختزلة لها باعتماد الجملة الفعلية المسهمة في تسريع السرد وصولا الى اللحظة الانفعالية المولدة للوظيفة الاسلوبية الادهاشية المستفزة لذاكرة المستهلك(المتلقي)..
(في ليلة مجنونة كلها شوق..رن جرس الباب واذا بقصاصة ورقية ملصقة على الجرس كان قد كتب عليها مقولة للاديب الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز(لو كنت اعرف ان هذه هي آخر اللحظات التي اراك فيها لقلت لك(انني احبك) دون اي مقدمات..اطلقت العنان لعواطفي وحررت فكري من سجنه الادبي ..ولم اجد الصبر حتى الصباح ورحت افتش عنها في كل صوب لانقل اعترافي ولهفتي اليها..وعلى الرغم من ساعات البحث الطوال لم اجد اي دليل لطيفها..وفي ساعات الصباح الاول وصلت الى مكان عملها وكان قد كتب على مكتبها..المكتب شاغر والشركة بها حاجة الى موظفة جديدة..)ص100..
فالقاص يحاول استنطاق اللحظات الشعورية عبر نسق لغوي قادر على توليد المعاني من اجل توسيع الفضاء الدلالي للجملة السردية مع اعتماد الرمز النصي المكثف لخلق ومضة قصصية مشبعة بلحظتها برؤية باصرة لوعي الفكرة وتحقيق اضاءتها باعتماد اللفظة الموحية..المتميزة بالانسيابية والتدفق..
وبذلك قدم القاص نصوصا قادرة على توليد حقول تسهم في اتساع الفضاء الدلالي للجملة السردية باستيعابها لمعطيات النص القصير جدا وثرائه العميق في الاختزال والتكثيف والقدرة على الادهاش والخلق الفني المكتنز بالرؤى والمعاني..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة