حين تنطق ذَكْرَأَة

نبيل جميل

حسب ما هو معلوم إن الأنثروبولوجيا هي العلم الذي يدرس الإنسان، ويبحث في أوجه الخصائص والتشابه مع الكائنات الأخرى، وأيضا العلاقات الاجتماعية والبيئية في المجتمع، والتأثير التاريخي وما تركه على السلوك بصفة عامة من قيم وعادات وأعراف وما هو متوارث من أديان.. وبالتالي كل هذا وغيره يمثل مراحل تطور الإنسان، لذلك نجد عوامل مشتركة بين الشعوب التي تتكلم لغة واحدة مثلاً أو يهيمن عليها دين واحد، وهذه المعطيات في بناء المجتمع كوّنت وحدات إنتاج فكرية لمعتقدات ترسّخت في أذهان توارثت ما خلّفه الأجداد، فنجد القلق هو المرافق الدائم في البحث عن حقيقة، ربما تكون من الوهم أو مبهمة لكنها تبقى حقيقة.
من المقدمة أعلاه والتي لم أتعمق فيها أكثر لأنني لست بمختص بعلم الانثربولوجيا، لكنني وجدت بأن ظلال هذا العلم قد غطت الرواية، وفي معظم تفاصيلها، من رحلة البطل إلى أربيل وتعرضه للسجن إلى أن يلتقي بـ(ليلى) في بيروت وتشتعل عنده العاطفة، لذلك سعيت أن أرتب المفردات ولو بشيء بسيط للدخول إلى رواية (ذَكْرَأَة) للروائي (علي الحديثي)، وكيف استطاع ان يلمّ بثيمتها وإن بدت متشظية، والتي أثار فيها عدة تساؤلات من خلال شخصية البطل (عمار) وهو يصف ويؤوّل كل ما يراه، وفق مفهومه الثقافي للمجتمع العراقي تحديداً، لا شك أن (ذَكْرَأَة) لو دخلت في مختبر ناقد متمرس فسوف يخرج لنا بمحددات مركزية اعتمد عليها الروائي في انجاز روايته.
أعتقد أن ما أراده (الحديثي) هو إثارة لمعتقدات ما زالت تسيطر على الذهنية العربية، ربما تكون إجابة على أسئلة قلق ما، قد يصيب من هو بمثل شخصية البطل اجتماعيا، أمام عالم وجودي قد يهتمّ بالمظهر الخارجي الشكلي، الذي يتخذ منه الإنسان مرآة عاكسة لما هو ظاهر، ثم يتدرج صعودا نحو كشف المستور، ويفتح بوابات جديدة تفضي إلى ما يستنتجه ككاتب عليم ملمّ بعادات رآها قد تطورت أو لنقل ازدادت تعقيداً في زمننا الحالي، وكذا.. مؤسساتي، ديني، أعراف.. إذن هي ترجمة لما ورثناه تاريخيا وتأصّلت فينا شرقاً، وبحكم ليس فرديا بل جمعيا بتشكيل لحمة مجتمع تنسجم وتطلعات المصلحة الفردية، بمعنى الانطلاق كفرد من داخل نسيج مدمج، لا أقول تقديم مصالح شخصية بل تثبيت لوجود من ناحية (ذكر، أنثى) وفي مجالات كافة من عمل وعبادات وغيرها، هكذا ولدت (ذَكْرَأَة) من رحم المعاناة (منذ سنوات سبقت عمري جاءني في المنام يرتدي جسداً عاريا طويلاً، كنت حينها أرقد في كهف مظلم، اندفع نحوي بقوة ليعمدني بمائه اللزج) ص9، ثم تبدأ رحلة المصير المجهول، لكل إنسان حكاية تأخذ بالنموّ كلما تقدم به العمر، ثيمتها التوجس خيفة واندهاشا لسيرة أخطبوطية تتشعب في دهاليز الحياة، فنقرأ عن : الحب، القهر، الموت، الجنس، الاغتصاب، الحرب، السجن، التذمر، صراع الأديان، الطائفية، التهجير.. إلخ، ونصطدم بمؤهلات وأسس لبوادر صناعة أزمات تحاكي العاطفة يتم استخدامها فيما بعد لتفكيك مجتمعات كانت تعيش بسلام.
والسؤال: هل قَصَدَ الروائي التحقيق في نزاعات؟ تحوّلات؟ دون مساس أو حدوث شرخ وحسب العلاقات (ذكر/ أنثى)، متجاوزا التعقيدات لما ورثناه من الأولين، بحكم مراحل متعددة، ثم الاعتماد على تقانة ما وَصَلَنا اليوم من علوم؛ تفسير لوجود قانون وضعي وكيفية تطويعه برغم الحشمة ومستحباتها.. هذا إذا تطرقنا إلى الديانات والتي أكّد عليها (الحديثي) في نهاية الرواية وكيف اجتمع الأب (ساسون) اليهودي تحت مظلة دينية بابنته (سوزان) وهو من تخلّى عنها في زمن ما، هل أراد الروائي تذكيرنا كقرّاء بالعودة الى الموروث الديني بحقيقته المعروفة (الشكلية) السلام (الصراع لم يكن اسلامياً/ يهودياً.. بل هو صراع سياسي، وأسلم طريقة لهم هو إلباسها ثوب الدين لينجرف الناس من الطرفين لمساندة هؤلاء السياسيين، الدين هو أسهل طريقة لضمان خداع الناس، أحيانا أفكر هل الخلل في الدين؟ أم في حَمَلة الدين؟ أم في الناس الذين جعلوا من الدين مخدراً يلغي عقولهم؟) ص 138، هي حاجة عميقة في دواخلنا، سلوك ذاتي معرفي، هل أسمّيه لمّ شمل؟ مرجعية أخلاقية موحدة؟ وجدها (عمار) في رسائل الخال (صبيح) لتكون وثيقة مهمة يستند عليها في حياته.
(ذَكْرَأَة) تحمّلت كل ذلك في عملية الطرح المثقلة من قبل الروائي فضلا عن معاناة العشاق (صبيح، سوزان) و(عمار) بتجاربه المشوّشة وغير المستقرة في علاقاته العاطفية إلى أن التقى بـ( ليلى) ابنة سوزان.
هل تعد (ذَكْرَأَة) من الروايات الإشكالية في التجريب؟ وإذا اعتبرت ضمن خانة التجريب، فهل يعني هذا أن التجريب في الرواية العراقية أخذ منحى آخر وفق مسيرة الرواية العربية بشكل عام؟ مثلما مرّت به من قبل ومنذ ستينات القرن الماضي تحديداً، هذا السؤال يجعلني كقارئ أن أقول عنها هي رواية تساؤلات عميقة، ربما رآها البعض تناقضا، وفق مفهوم بناء الرواية التقليدي الحكاية الرئيسة من الصفحة الأولى، ثم الحبكة، الأحداث.. إلخ.
من وجهة نظر قارئ آخر ربما يكون العكس حيث يجدها مليئة بالأحداث.. بيئة عراقية، عربية، وخوض في سلطات وقوانين، المؤسسة الحاكمة، رجل الدين، الأعراف القبلية.. إلخ، استرجاع زمن وربطه بالحاضر، محاكاة أجيال، القدرة على الخوض في موضوع علاقة الخالق بعباده (ما رأيت الناس بحاجة الى الله كحاجتهم إليه اليوم، ولكنهم يريدون (الله) الذي يبث الأمان في قلوبهم، الذي يحتضنهم برحمته.. وليس (الله) الذي رسمته أفواه تدّعي أنها ناطقة باسمه، هؤلاء جعلوا من الله وحشا ضاريا متعطشا للدم، أتعلمين ان الصراع بين السنة والشيعة عندنا لا علاقة له بـ (الله)، (الله) في صراعهم ليس سوى (فزاعة خضرة) يخيفون به أتباعهم) ص130.
ختاماً يمكن القول بأن (الحديثي) أفرغ شحنات متنوعة في (ذَكْرَأَة)، حملت أبعاداً سياسية واجتماعية ذات أهمية قصوى، وتمايز خلافاً لكتاباته السابقة بالقدرة على اللعب بالفضاء الروائي بصورة عامة، وأعتقد أن هذا الأمر لا يعدو أن يكون غير خوض جديد وجرأة في عملية السرد الروائي، من ناحية الشكل، وهيمنة حضور التعليق والتأويل على ما يعيشه المجتمع العربي حالياً من أزمة صراع ديني، مذهبي، سياسي؛ ثم الميل إلى تبرير وتفسير يصل إلى حد الفضح للمؤسسات السياسية، وتلك التي تتخذ من الأديان غطاء لها.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة