مايكل هيرتسوغ
لم يحظ انسحاب القوات الاميركية من سوريا بانتقاد من قبل المسؤولين الاسرائيليين على الاطلاق , وعلى الرغم من ان الانسحاب اثار استياء وقلق الجانب الاسرائيلي ورغبة في تحقيق مصالح سريعة, اضافة الى تحقيق اقصى قدر من التضامن الروسي والدولي حول استيائهم من ترامب وخوفهم على مصيرهم وتواجدهم في قلب الشرق الاوسط, بعد قرار الانسحاب الترامبي من سوريا , الا ان اسرائيل اشارت في وقت لاحق الى ان الموقف الاميركي ضعيف تجاه الزخم العسكري الايراني في كل من العراق وسوريا , وان اسرائيل وحدها تحملت عبء مقاومة هذا الزخم , وبقدر ما هو وارد ضمن المحافل الدولية والاعلامية والعربية منها خاصة أن واشنطن ستدعم إسرائيل حتى لو تم سحب القوات الأميركية. وبقدر ما هي صحيحة، لا تروي هذه التصريحات القصة كاملة.
مخاوف إسرائيل
تميل السلطة والحكومة الاسرائيلية الى نبذ الافكار الاميركية والتقليل من اهمية التصريحات الاميركية , التي تركز على ابراز مشكلاتها في الشرق الاوسط , بعد قرار الانسحاب من سوريا والتي تتركز على استهلاك الجندي الاميركي في حروب طويلة وارهاقه في سلسلة عمليات التحرير ابتداءا من افغانستان مرورا بحرب الخليج وتحرير العراق , وانتهاءا بحرب داعش في سوريا , كل تلك المخاوف لم تجد اذنا صاغية لصناع القرار الاسرائيلي , كون اسرائيل تشعر بالقلق الكبير على فقدان عنصر مكمّل مهم لردعهم الاستراتيجي ومرساة الاستقرار الإقليمي, في الوقت ذاته تفكر اميركا وحكومة ترامب في حل مشكلاتها الداخلية , اضافة الى قلة واردات الشرق الاوسط التي كانت تدر على اميركا الشيء الكثير .
وفي الغالب، تنظر إسرائيل إلى القرار الأميركي من خلال منظور التهديدات الأكبر لأمنها القومي – وتحديداً، طموحات إيران النووية والإقليمية، وجيشها المؤلف من الوكلاء الذين يبنون قدراتهم في الجوار المباشر لإسرائيل. فمن خلال هذا المنظور، تكون النتيجة النهائية سلبية.
ولكن ماذا في جعبة ايران ؟ ولماذا هذا الاهتمام في الشان السوري من قبلها ؟ محاور تم نقاشها على طاولات مراكز الدراسات الاستراتيجية الاسرائيلية بشكل حثيث وبالحاح شديد , وجل ما تم التوصل اليه ان لايران مخططات واضحة لتحويل سوريا الممزقة جراء الحروب الى ساحة حرب ضد اسرائيل , خاصة بعد أن تدمج مع الجبهة اللبنانية وبذلك يتم تطويق اسرائيل من كل الجهات وانشاء ارض خصبة لسيطرة ايران الفعلية على المنطقة .
اسرائيل من دورها كانت قد فهمت ذلك المخطط وقامت باجراءات احترازية حيث حددت إسرائيل خطوطها الحمر فيما يتعلق بتورط إيران في سوريا وقامت بتنفيذها من خلال العمليات العسكرية المستمرة – وهي حملة ناجحة نسبياً ولكنها تنطوي على خطر نشوب صراع إسرائيلي -إيراني أوسع نطاقاً.
مجابهة الحلم التوسعي الايراني
ترامب من ناحيته لم يجد في وجود جيشه المسلح على الاراضي السورية اي فائدة لمصالح اميركا الامنية والقومية , واسرائيل من ناحيتها التي تفكر في مصالحها الدفاعية عن نفسها ووجودها الشرق أوسطي , أعربوا عن املهم في اداء اكبر للقوات الاميركية لمجابهة احلام ايران التوسعية ومنع الاستمرار بأنشطة ايران النووية المثيرة للقلق متضامنين في الوقت ذاته مع كبار المسؤولين الاميركيين في البيت الابيض الذين ربطوا في الأشهر الأخيرة مراراً وتكراراً الوجود العسكري الأميركي المستمر في سوريا بالوجود الإيراني فيها.
ترامب من ناحيته كان قد اشار في عدة محافل دولية وعسكرية وحتى امام البيت الابيض, ان وجود جيشه الجرار على الاراضي السورية هو لمحاربة تنظيم « داعش « الارهابي ولم يكن وجوده ضمن استراتيجية محاربة ايران والقضاء على احلامها التوسعية , الامر الذي يؤكد تماما ان الدور الاميركي سيكون ضعيفا نوعا ما في السنين المقبلة في تولي زمام هذه الحملة الاستباقية ضد التوسع الايراني مع بقاء الدور الاكبر لأميركا في دعم اسرائيل والحفاظ على وجودها .
بدورها شكلت العقوبات الاقتصادية الأخيرة ضغوطاً على استثمارات إيران الخارجية، ويشعر المسؤولون الإسرائيليون بالقلق لأن الانسحاب الأميركي سيؤثر على منطقتين رئيستين: (1) قاعدة التنف، والمنطقة العازلة المحيطة بها في جنوب شرق سوريا التي يبلغ طولها خمسة وخمسين كيلومتراً، وتقع على الطريق الاستراتيجي بين بغداد ودمشق، و (2) المنطقة الكردية شبه المستقلة في شمال شرق سوريا. وقد أعاقت هذه المناطق (وخاصة التنف) فروع الممر الذي تخطط له إيران والذي يصلها بالبحر المتوسط. وبالمثل، يشعر الأردن بالقلق إزاء إخلاء التنف لأن ذلك قد يسمح بنشر وكلاء إيرانيين بالقرب من حدوده , مما يشكل مصدر قلق كبير بالنسبة لإسرائيل التي تعد استقرار المملكة أمراً حاسماً.
اما من وجهة نظر الحكومة الفلسطينية فانها ترى في التواجد الاميركي على الاراضي السورية دعما هائلا لاسرائيل , اما الموقف الروسي فقد سعى كل السعي للحد من التصرف الاسرائيلي في سوريا منذ سقوط الطائرة في أيلول، حيث ألقى اللوم على القوات الإسرائيلية نتيجة خطأ فادح ارتكبته الدفاعات الجوية لنظام الأسد. وحتى الآن، لم تنتعش العلاقات الثنائية تماماً بعد.
تكتيكات الدب الروسي
ويؤمن المسؤولون في وزارة الدفاع الإسرائيلية أن توجيه هذا اللوم إلى إسرائيل كان أحد التكتيكات التي تتبعها روسيا للحث على التوصل إلى تفاهمات محتملة مع واشنطن بشأن الانسحاب من سوريا، من بين قضايا أخرى. فوفقاً لتقارير وسائل الإعلام الصادرة مؤخراً، اتصلت موسكو بمسؤولين إسرائيليين في أيلول بشأن فتح حوار مع الولايات المتحدة، وذلك جزئياً للإعراب عن رغبتها في طرد القوات الإيرانية ووكلائها من سوريا. وفي المقابل، كان سيُطلب من واشنطن تجميد العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران أو تخفيفها، وإخراج قواتها من سوريا.
اسرائيل متيقنة في الوقت الحالي ان عليها ان تتكيف بصورة احترازية للانسحاب الاميركي من سوريا خاصة ان قرار انسحاب ترامب من سوريا اضاف شيئا من الارتياح لايران واحلامها التوسعية التي قد تتخذ من منطقة « التنف « مقرا لتواجدها العسكري والاستخباراتي , خاصة بعد ان قامت اسرائيل في الاونة الاخيرة الى الاعتماد على روسيا بدلا من اميركا واعادة صياغة التفاهمات والاتفاقيات الامنية خاصة فيما يشمل الاعتراف بضم إسرائيل لمرتفعات الجولان. وبينما تبدو الإدارة الأميركية متنبهة لبعض هذه الطلبات وتبذل جهداً كبيراً للتخفيف من الانطباع الإقليمي السلبي لقرار الرئيس ترامب، إلّا أن الآثار الطويلة الأجل المترتبة على الوضع ما تزال تلوح في الأفق ولا يمكن تجاهلها.
* عن معهد واشنطن للدراسات والبحوث الاميركية