لؤي كيالي رسام الحياة في أرقى صورها

لؤي كيالي «20 كانون الثاني 1934 – 26 كانون الأول «1978 فنان تشكيلي سوري من مواليد حلب بدأ أولى خطواته بالرسم في عام 1945 ليعَرْضٍ أولى لوحاته في مدرسة التجهيز بحلب عام 1952 وفي عام 1954 أنهى الدراسة الثانوية وبدأ بدراسة الحقوق في جامعة دمشق.
اشترك في عام 1955 في معرض جامعي ليفوز فيه بالجائزة الثانية، ترك كلية الحقوق في السنة نفسها وعاد إلى حلب ليتوظّف كاتباً في المعتمدية العسكرية.
عام 1956 أوفدته وزارة المعارف السورية إلى إيطاليا لدراسة الرسم في أكاديمية الفنون الجميلة في روما إثر فوزه بمسابقة أجرتْها وزارة المعارف، في إيطاليا تفوق وتجلت موهبته أثناء دراسته فشارك في معارض ومسابقات شتى في إيطاليا فحصل على الجائزة الأولى في مسابقة سيسيليا (Sicilia) التابعة لمركز العلاقات الإيطالية العربية في روما كما نال عدة جوائز، كالميدالية الذهبية للأجانب في مسابقة رافيّنا (Ravenna) عام 1959
أقام معرضه الشخصي الأول بنفس السنة في صالة لافونتانيللا (La Fontanella) في 30 تشرين الأول. مثّل سورية إلى جانب الفنان الكبير فاتح المدرس في معرض لابيناله (La Biennale di venezia) في مدينة البندقية في عام 1960 كما حصل على الجائزة الثانية في مسابقة ألاتري (Alatri) كما أقام في17 تشرين الأول من هذا العام معرضه الثاني في صالة المعارض في روما La galleria d›Arte del palazzo delle esposizioni.
في عام 2016 كتب عنه الكاتب العراقي فاروق يوسف موضوعا تحدث فيه عن تاريخ الكيالي وطبيعة الرسومات التي خطت أسلوبا مميزا له، وعن الملابسات التي رافقت موته، فكتب:
ما لم يحتط له لؤي كيالي أن تكون طريقة موته سببا مضافا لسوء الفهم الذي أحاط حياته بالألغاز. فبعد أن مات محترقا في منزله بحلب، لم تكن نظرية موته انتحارا بعيدة عما شهدته حياته من تقلبات، كانت قد وسمت شخصيته بالكآبة.
ربما أضفت طريقة موته هالة عليه، فصار موته المبكر بمثابة علامة على عبقريته التي وهبت كل ما لديها في وقت قياسي وصار لزاما عليها أن تختفي. غير أن الثابت أن ما أنجزه كيالي خلال العشرين سنة التي عاشها رساما كان استثنائيا من جهة قوته الفنية وتميزه الأسلوبي.
فرغم مضي حوالي أربعين سنة على غيابه ما تزال رسومه تثير الاهتمام، لا بسبب أهميتها التاريخية فحسب، بل وأيضا بسبب ما تنطوي عليه من قيمة فنية، لا تتأخر به خطوة واحدة عن الصف الأول من رسامي الحداثة الأولى في سوريا، وهم زملاؤه الذين استمروا في الرسم بعد غيابه. فاتح المدرس ومحمود حماد ونصير شورى، وسواهم من أفراد الجيل الفني الذي بشر بالتحول الفني الذي شهده مفهوم الرسم في المحترف الفني السوري.
غير أن ما يجب الاعتراف به هنا أن الكثير من عمليات الأسطرة قد لحقت بسيرته وذلك بسبب موته المبكر بتلك الطريقة المأساوية. وهو ما جعل الكثيرين يتعففون عن المرور بحقيقة أن الرجل كان مريضا بالكآبة، بل إن البعض حاول أن يلقي بأسباب شعور الرسام بالإحباط على نقاد الفن الذين هاجموا رسومه.
لغز كيالي لا يختزله سؤال موته “هل مات منتحرا أم نتيجة حريق لم يكن له فيه يد؟” بل يتسع لسؤال يتعلق بوضعه النفسي. فهل كان الرجل الذي أحرق لوحات معرضه ذات يوم، ضحية لموقف النقاد المناوئ لتجربته الفنية أم أن هناك أسبابا أخرى لكآبته، لا صلة لها بمعرضه الذي تنقل بين المدن السورية وكانت لوحاته بمثابة رد فعل فني مباشر على هزيمة يونيو الشهيرة؟
ولد لؤي كيالي في حلب عام 1934. في سن مبكرة مارس الرسم، غير أنه اختار في العشرين من عمره أن يدرس الحقوق وهو الخيار الذي ندم عليه حين غادر الجامعة بعد سنة من التحاقه بها، بعد أن عرض لوحاته في معرضها السنوي.
عام 1965 أوفدته وزارة المعارف وكان أحد موظفيها إلى روما لدراسة الرسم بعد فوزه بمسابقتها. عام 1959 أقام معرضه الشخصي الأول في مدينة روما. بعد ذلك المعرض بسنة شارك برفقة زميله فاتح المدرس في بينالي فينيسيا من خلال الجناح السوري.
في السنة نفسها أقام معرضه الشخصي الثاني في روما. حين أكمل دراسته عاد إلى بلده ليدرس الرسم في المدارس الثانوية وليستقر في ما بعد في المعهد العالي للفنون الجميلة وكان قد افتتح عودته بإقامة معرضه الشخصي الثالث في قاعة الفن الحديث بدمشق.
كان غزير الإنتاج وهو ما أهله لإقامة ثلاثة معارض في الخمس سنوات التي تلت عودته إلى سوريا. الأول في دمشق والثاني في ميلانو والثالث في روما. صُدم الرسام بما انتهت إليه حرب الأيام الستة عام 1967 فصار يرسم متألما بالفحم وكانت تلك اللوحات مادة معرضه “في سبيل القضية” الذي لم يلق ترحيبا من قبل الفنانين ونقاد الفن وهو ما دفع الفنان إلى حرق لوحاته والتوقف عن الرسم.
كانت تلك صدمته الأولى التي أصيب بسببها باكتئاب شديد، حيث اعتكف في بيته بدمشق منقطعا عن التدريس والرسم ليغادره بعدها إلى حلب عام 1968.
وبالرغم من أن كيالي حاول أن يستعيد وضعه الطبيعي غير أنه سرعان ما كان يتعرض لانتكاسات صحية، وهو ما أدى في النهاية إلى أن يُحال إلى التقاعد عام 1971. وبرغم تلك الانتكاسات فقد استطاع كيالي أن يقيم خلال السنوات اللاحقة خمسة معارض شخصية، بين بيروت ودمشق ومونتريال، كان آخرها عام 1978 في صالة الشعب بدمشق. بعد ذلك المعرض سافر كيالي إلى روما وقد قرر أن يقيم فيها بشكل نهائي بعد أن باع بيته في حلب، غير أنه سرعان ما عاد إلى حلب محبطا ليقرر اعتزال الحياة، مستسلما لكآبته التي سلمته إلى الموت.
مر لؤي كيالي بالرسم السوري خاطفا، غير أنه لم يكن ظاهرة عابرة. أثره كان عميقا بما تلاه من الرسامين.
وهو المتهم بالجنون كان الأشد انسجاما مع ذاته في تصوير البسطاء من الناس بأسلوب تعبيري حديث، لا يبالغ في سرد الحكاية على حساب الانحياز إلى الانفعال الذي هو مصدر الشكل في توتره.
لقد وجد كيالي في الرسم مناسبة للإعلان عن غضبه وضيقه بعالم لا يرى جمالا في حياة الناس العاديين الذين أحبهم باعتباره مشاهدا. لم يكن الرسم بالنسبة له إلا مختبرا للأرواح المعذبة.
كان الرسم وسيلته المؤقتة لمغادرة روحه المضطربة التي لم تتسع لأي نوع من الارتباط الاجتماعي. فالرسام الذي لم يتزوج كان لا يضيق بحياة الآخرين، بشرط أن تكون تلك الحياة مرسومة.
لم تكن لديه إلا حياة واحدة، عاشها وهو يتأمل تفاصيل الأيام الرتيبة التي تتشكل منها حيوات آخرين لا يعرفهم.
وإذا ما وضعنا الموقف السيء الذي اتخذه النقاد والفنانون من معرضه (في سبيل القضية) عام 1967 فإن كيالي كان فنانا ناجحا بالمقياسين الفني والتجاري، ذلك لأن رسومه كانت تباع بأسعار، كانت هي الأعلى في زمانها، إضافة إلى ما كانت تحظى به تلك الأعمال من تقدير من قبل أبناء جيله من الفنانين.
غير أن هشاشة تكوينه الداخلي لم تعنه على مقاومة قسوة الظروف الخارجية وفي مقدمتها هزيمة يونيو التي أربكته، فصار ينظر من خلال اضطرابه إلى جنون جماعي، هو بالنسبة له نهاية لكل شيء أحبه.
لقد صور كيالي حياة الناس العاديين كما لم يفعل رسام سوري آخر، وكان يود من خلال ذلك أن يهب نفسه القلقة نوعا من الاطمئنان تستطيع من خلاله الخروج من عزلتها. بطريقة أو بأخرى كان يجد في حيوات الآخرين المكتملة بفقرها نوعا من العزاء لحياته الناقصة، بالرغم من ثرائها.
أكان على كيالي أن لا يظهر تشاؤمه تعبيرا عن صدمته بهزيمة يونيو لينجو من اتهامه بإشاعة روح الإحباط وهو الموقف الذي قاده إلى حرق أو تمزيق لوحات معرضه عام 1967؟
كان ذلك المعرض بمثابة صرخة جيل ضيعته أكاذيب السياسة ولم ينجده الواقع بشيء يمكن التعويل عليه في النظر إلى الحياة بتفاؤل. وكما يبدو فإن تلك الصرخة قد ارتدت إلى صاحبها بعد أن اصطدمت بجدار صلد من النفاق الثقافي وهو ما دعا الرسام إلى أن يفقد مؤقتا ثقته بالفن.
ما لم يدركه منتقدوه أن كيالي وهو الحزين بطبعه لم يكن قادرا على التفاعل مع الوقائع المريرة من حوله إلا ببصيرة الرائي الذي لا يسليه مشهد الأقنعة ولا تدير رأسه خطابات السياسة عن الطريق التي تقود إلى الحقيقة.
لذلك فضل لؤي كيالي أن ينزلق إلى مهاوي الجنون بدلا من أن يتمسك بمظهر العاقل الذي يساهم في إشاعة جنون جماعي. تعود بنا رسوم كيالي دائما إلى صرخة الطفل الذي رأى الملك عاريا.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة