قراءة في «ديوان عبير سليمان ركاب الزوارق الورقية»

الانحياز إلى الحياة..
أسامة الحداد

يبدو أن الحروب الدائرة في المنطقة تحمل نصوصها جوار القذائف والدانات وتنبت زهورا تحت القصف وهو ما تقدمه عبير سليمان في ديوانها ركاب الزوارق الورقية والصادر مؤخرا عن دار بعل، حيث الخطاب الشعري ينتقل في أقسام أربعة من اليقين إلى اللامبالاة وعبر الشك والخوف كأنها الاتجهات في الجغرافيا الوصفية من الشرق إلى الغرب والشمال والجنوب وإن بدا الديوان كقصيدة ممتدة تشتبك خلالها «عبير سليمان» مع أحلامها وواقعها عبر ذات تبحث عن خلاصها وتواجه مسوخ العالم ووحوشه الجديدة، فمنذ العنوان ركاب الزوارق الورقية إلى الإهداء حيث أجمل شعب غريق، وكأنها تكشف عن دلالة العنوان أحد مكونات النص وجزء من بنيته والذي هو مراوغ يحمل دلالات مفتوحة ومتسعة حاولت تحديدها، ومن الإهداء إلى التوطئة حيث الموت غرقا من خلال لعبة لغوية ترسخ للألم وتسعى للتأكيد على وحدة المصير ( نذكر أنهم غرقوا بشكل يشبه النجاة ويذكرون أننا نجونا بشكل يشبه الغرق) هذه اللعبة اللغوية من خلال الطباق واستخدام المحسنات البيعية لا ترتكز عليها كنسق جمالي في ديوانها الذي تواجه من خلاله واقع مؤلم حيث لا يوجد فائز ولا ضربة قاضية، إن الحرب الدائرة في سوريا حاضرة ولكنها لا تكتب الحرب كواقع يومي، إنها تبدأ بالحلم لتقدم صورة لعالم متخيل يبدأ من لوحة وورقة توت، وإن توغلت الكوابيس داخل الحلم، فالذات الشاعرة هنا ذات جمعية فاعلة تقبض على التاريخ وتجمعه في لحظتها الآنية وتلملم أطراف الذاكرة من قصيدة تهجو بها أجدادها ومن الديناصورات وطائر الفينيق إلى صناعة قوالب الحلوى المحروقة وفطائر القلق الحامضة، ففي جولة اليقين تتمسك بالقصيدة والحب ( ليس إثمًا أو نقيصة حين أدعو الشعر يحكي عنّا؛ الحب: أن أترك الشلال يؤلف الحافّة) ص39 ومن جولة اليقين إلى جولة الشك إن التناقص يبدو ظاهريا من الثقة في الحياة إلى الشك بها، وإن أمتد النص كقصيدة واحدة تحمل رؤية تجمع بين الصوفية من خلال استبطان الذات والتوحد مع الآخر / الآخرين ( أنت كل الراحلين والمفقودين والغائبين ) و( أنت قلق كتابتي أنت ألقها كذلك) ص63 (أنا التبغ في سجائرك السكر في قهوتك والرقم الوطني على هويتك.) ص 124 والواقعية من خلال استحضار اليومي والعادي والمجاني وتوظيفه داخل النص والرمزية من خلال استخدام بعض الرموز كاللوحة والقصيدة والجرار واللحن بمرادفاتهم وجميعها مواجهة لرصاصة واحدة في الجبين ولحرب توزع فيها الأم أولادها على جبهات القتال الأربع، إن هذا الصراع الذي تتمسك فيه الذات الشاعرة بهويتها وتاريخها وأحلامها في مواجهة قسوة الواقع لايتوقف عند الشك في الآخر وفي البحث عن الجمال العابر بل يتجاوز ذلك عبر التفاعل النصي من خلال استحضار « سلفادور دالي» ولوحاته السوريالية وكذا النقشبندي وتبدو اللوحة دلالة مركزية متكررة تلح عليها داخل الديوان القصيدة في تأكيد على استخدام المشهدية والصور البصرية الممتدة وفي تواشج الفنون وتفاعلها (رسمت في اللوحة رجلا تحبه كي تنسى وتضحك وتصالح مرآتها؛ ماذا تفعل إذا أراد حبيبها المرسوم مغادرة اللوحة؟ وأين تذهب إذا أحب الرجل جارتها) ص89 أو ( لمن أبتسم في صورتي الأخيرة؟ أقف متفائلة باقتراب الموعد: أفضل التصفيق عندما ينتهي الفيلم الممل) ص 114 إن الحلم عبر اللوحة يبدو كابوسيا غير موثوق به يحمل عوامل هدمه ويرسخ لألم جديد لا تهزمه اللا مبالاة التي ليست هي الخلاص حتى لو كرر انتحاره في تمام السادسة قصيدة ( انتحار) أو واصلت الضحك برغم ما تعيشه من كوارث متواصلة كما في قصيدة ( آل البهجة) لتختم ديوانها / قصيدتها بسؤال يتجاوز اللامبالاة ( ماذا أفعل بالخيال وهو سائق أعمى؟ وماذا أفعل بالشعر وهو مرآب لطائرات وسفن من ورق؟) لتكشف ومن خلال المفارقة التي فجرتها عبر هذه التساؤلات عن موقفها من العالم ومن الحرب التي تبدو هي محور النص ، حتى لو حاولت الهروب منها داخل لوحة أو من أصابع البيانو فالحرب وغرق الهاربين من جحيمها تهيمن على النص الذي نجحت خلاله كثيرا في تجاوزالمباشرة والخطاب الأيديولوجي وإن ظلت الحرب مهيمنة على النص وحاضرة داخلة كواقع معيش ورصاصة تنطلق في أعماق الذات الشاعرة التي تعيش الدمار ومشاهد القتل ( لمن تقرع الطبولفي صدورنا؟) ص 111. ومع قدرة الشاعرة على تقديم خطاب جمالي فقد كان تقسيم الديوان إلى أربع جولات – كما أرى – جائرا ومحاولة لتحديد ما هو مطلق وتوجيه المتلقي في تأويله للنص والاشتباك معه فالنص يحمل صيرورته التأويلية فالزوارق الورقية يمكن أن تشير إلى الحلم ولعب الأطفال كما أنها تشير إلى الغرق عبر ركابها وتحيلنا في ممارسة دلالية إلى المهاجرين الهاربين من الحرب وموتهم في البحر وكأن النجاة غدت مستحيلة والمصير المشترك بالموت لا يوجد بديل عنه، فالنص يبدو كقصيدة واحدة ممتدة بحالات متنوعة تتنامى أفقيا أحيانا ورأسيا أحايين أخرى وهذا التقسيم كان محاولة لتوجيه القارئ وجهة محددة كما أرى. عبر الديوان تبادل استعاري متكرر بين الذات والآخر تكشف من خلاله عن تشظى الذات وتعددها واتساعها كما في قصيدة «عين سحرية» ( في اللوحة امرأة لا تجيد البكاء، ترنم أغنيةً لا يطلبها الجمهور، تفتح النوافذ لوجة يشرق تمام العاشرة) إن اللوحة تبدو كثيرا كصورة أخرى للذات وكأنها البديل للمرآة والظل وكأن الذات في حقيقتها افتراضية تعيش سجينة داخل لوحة، ويبدو التبادل الاستعاري مع الآخر وانقسام الذات أيضا في قصيدة « لم نكن تمامًا عدوتين». وعلى الرغم من قدرة الشاعرة على تجاوز الخطابية في مواجهتها للحرب وخرابها وانحيازها لما هو جمالي إلا أنها في بعض الأحايين جاءت بعبارات يقينية مثل ( «الخيبة»؛ يا لها من كلمة تجميلية تخفي عيوب الواقع.) ص 112 وأخيرا فإننا أمام نص ينتصر للجمال في مواجهة القبح ويحمل خطابا لصالح الحياة تنحاز خلاله الذات الشاعرة إلى الفن والجمال لتقدم نصا ثريا يضاف إلى منجزها الشعري.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة