يوسف عبود جويعد
سنكون مع مجموعة النصوص الشعرية النثرية (أحزان صائغ الطين) للشاعر جبار الكواز , لنقف على مواطن التفرد , والرؤية الشعرية التي إتخذها الشاعر مسار لسياقها الفني , حيث أجد أنها نصوص ملحمية , وملحميتها لا تكمن في الوقائع والاحداث التي تناولها المتن النصي , لبناء تلك النصوص , وأنما قي زاوية النظر التي إتبعها , وفي الافكار التي ضخت فيها , وحجم الصور المتعاقبة التي تدور في ثنايا النص , وفي الإنزياحية في اللغة التي تزج معها , التاريخ , الحضارة , الملاحم , الاساطير , لتنصهر مع الوقائع الحياتية الآنية التي إتخذت وحدة موضوع لها , وتكون مع ثيماتها الكبيرة , فلم يكن الشاعر جبار الكواز ينسج قصيدته وفق رؤية ضيقة مغلقة تحددها تلك المفردات الانزياحية القليلة لتكوين النص , وتشكيل الرؤية الشعرية , وإنما اراد لها أن تكون كبيرة في كل ما تحمل من أدوات بناء النص الشعري, لتسع حجم ما حل من خراب ودمار وكوارث, فهو لا يهاب التدفق الشعري الكبير , الذي ينطلق من مخيلته الخصبة, والنابع من وعيه وثقافته , وإطلاعه على كم كبير , يخص حضارتنا , وحكاياتنا,وتاريخنا , موروثنا الشعبي, وهو إنعكاس تلقائي إنسيابي يدخل ضمن إيقاع بناء النص , دون توقف , أو تلكؤ, أو معوقات تربك الحركة البنائية الملحمية المتمثلة بالتكوين والتشكيل الشعري لهذه النصوص,حيث نجد أن موضوعها متصل دون توقف,أي ليست هناك نقاط توقف بين جملة واخرى ,إذ أنه جعلها مترابطة بطواف لا ينتهي الا بنهاية القصيدة, وهو يشبه الى حد بعيد من يشعل ناراً ولديه الكثير من الحطب , ويبدأ بتأجيجها بالتدريج حتى ترتفع السنة اللهب , وترتفع النيران , وهو يظل يضخ الحطب دون توقف من أجل أن تكبر مساحة الاحتراق أكثر دون أن يهابها ,أو يحد من لهيبها ,أو يخفف حدة إشتعالها, بل يتركها تضيء كل المساحات حتى المجانبة لها ,وهكذا ديدنه وهو يقوم ببناء النص الشعري , لديه المزيد من الافكار , لديه المزيد من المعلومات التي تدخل ضمن وحدة موضوع النص , لديه الإنكسارات والتداعيات والتجليات, ولديه الوقائع والاحداث , فهو يضخها كما يضخ الحطب على النار ليزداد إشتعالاً وضياءاً وينير الدروب المظلمة , ومن هنا تستطيع القول أن الشاعر جبار الكواز يضع رؤيته الجديد لبناء القصيدة الملحمية , ولكن ليست تلك التي تعني الملاحم بمفهومها الحرفي , وإنما القصيدة الملحمية بكل ادواتها وافكارها وثيمها وصورها وانزياحها , فهو لا يريد المتلقي أن يتوقف عند حدود معينة وهو يرحل مع عالمه الشعري ,وهي بمثابة الجرءة والاقدام وعدم المهابة في تدوين النص, بالتردد بإستقدام ما يمكن أن يساهم في شد وقوة وبناء النص الشعري بشكل مغاير , وأن لا يكون منضوياً تحت سطوة النص ومفرداته وصوره المحدودة الضيقة , فهو يتنقل حيث يشاء , وكيف ما يريد , متخذ من فضاء النص مساحة واسعة تستوعب هذه الملحمة من التدفقات الشعرية اذا صح التعبير , فيفتح كل الابواب على مصراعيها لتكون مداخل لإعداد نصه الشعري .
ولكي نمضي بالاستكشاف أكثر , ونتعمق أكثر , فسوف نطوف معه في نصوصه الملحمية هذا الطواف المتصل الذي رسم ملامحه.
إذ أن بنية العنونة , مرتبطاً إرتباطاً وثيقاً مع النصوص التي حلت في ثنايا هذه المجموعة , في النص الشعري (أحزان صائغ الذهب) نكون مع تلك الاحزان التي سكنت قاعنا ولم تغادرها .
اكتبوا عني
حروفاً تطلع منها خيول خشب
ولجامات حرير وبراذع ياقوت وهسهسات ظلام وحلي وصبايا
منتحرات واباريق خمر تلمع عيون موتاها في أسفار الافعى
انا الآية المنحولة بالخوف
وانا قال : خمرتكم النائمة في الشجر
فتعالوا
امسكو ليلتي من عرفها
صبو شكوكم في مضارعي المريض
اغسلوا حصاني الخشبي بدمائكم
وهكذا يستمر الحس التصاعدي الشعري , كما تتصاعد النيران وتزداد ألسنتها الملتهبة وهي تلتهم الحطب .
أما النص الشعري (إسمي المتدارك) فنكون معه ومايعنيه إسم الشاعر في ملحمة شعرية , تتدفق فيها المفردات الشعرية بصور متعاقبة ملتهبة .
وحينما لم يعد لي غيرُ اسمي
أطرتهُ بزوايا وهمك
ولونته بخيلاء رهبتك
وسكبت طوفاني كي أعزلَ الثريا عن عذابات السكون
ظلٌ جيمهُ ملفوفاً بكفن / والجيم جمل الجحيم وناقة الفناء
وباؤه دموعَ القذائف / الباءُ: ببغاءُ الصدى وبلبل الغراب
وألفهُ رخواً كأمرأة في محاق / الألف : نائمُ في اسطبل الحروف
وراؤه صغيراً في ناي أرمل / الر اءُ : رئة الموتى وزفير الأموات
إسمي أو إسمك لا فرق
لم يعد فيه ما ينفعني
أقلبهُ رأساً على عقب
وفي النص الشعري (أوامر القسم الثاني) وهو مهداة الى / علي الحسيني الذي غاب في رمال حفر الباطن , فهو يقدم لنا رؤية كبيرة عن الحروب وما يحدث فيها من دمار , والم الفراق تحت وطأة نيرانها المشتعلة .
عظامك لم تعد قوساً للعيد / وملابسك رايةٌ في ملح السؤال / ونظارتك العمياء رقمٌ في صدف الأشياء/ وأوامرك الخرس نسجت في الرأس دخانْ / فصار الرس صدى/ ولا عقل تبقى في لااسطبل/ فالعقل زوال/… تمسكْ بالنسيان إذن/ ولا تنزل الى مقهى الاحياء / لم تسمع غير طنين ونباح ظلال تبكي في الكأس / غناؤها رجسٌ وقفاها أوهامْ/ والشرفاتُ اصابع لم تعرف طعم الصمت / فلقد أحترقت الستر بشتم من مرّوا دون حسابْ.
وفي النص الشعر (حينما الحلة) نكون مع فاجعة انفجار كبير حدث في الحلة فأحاله الشاعر الى ملحمة شعرية تندى بالاسى والحزن , كما ضمنها اشكال هندسية مربعات ومستطيلات , ليدون فيها الصورة الشعرية التي تحتاج اليها , وهي تقنيات حديثة . وهذه الاشكال دخلت في نصوص اخرى ضمن هذه المجموعة , ومنها مستطيلات أخذت الجانب الايمن متصلة ترافق النص الشعري حتى نهايته .
ما زال من نقيع صوتهم صهيل / يرضع الأسمال بالسؤال / أتعلمون؟/ إن خلف ظلكم عرباً سروا يزيفون في البراري أشارة العبور للفناء/ أغثنا يا مغيث الصارخين / مطر مطر مطر / أنزل علينا جسداً جديداً / أنزل علينا رأسنا الحليق/ أنزل علينا الروح بالسكينة / قصفُ نارٌعصفٌ/ ما مر عام والعراق ليس فيه طف / فكيف ننهي دورة الطفوف وأختمُ
الإفادة / بقول ما خولني الأحياء والأموات / مردداً بيت أبي فرات
( ولما حمت الأقدار ألقت بهم جيفُ البطون الى العراق ) اماه لنا أخت بلا نهدين فكيف ساعة إذ تزف ؟/ طف, طف, طف
وهكذا ومن خلال تلك النصوص الشعرية المختارة من مجموعة (أحزان صائغ الطين) للشاعر جبار الكواز , والتي ضمت نصوص مختلفة ومتنوعة لاتقل أهمية من تلك النصوص, نكون قد وقفنا على تجربته الشعرية , واكتشفنا معالم الجمال في النسق الفني الذي إختاره مساراً لبناء نصوصه الشعرية , التي أتسمت بالملحمية الشعرية من كل الوجوه , في إختيار الصور المتعاقبة , والانزياحات الكبيرة المغطاة بأنواع شتى من المعرفة , وفي وحدة الموضوع , والثيمة , والتي تثبت أن الشاعر أستطاع أن يرسخ رؤياه الشعرية في الساحة الشعرية الحافلة بشتى صنوف الشعر .