ديباجةُ الكفِّ التي شرَعت تتراخى

زيد الشهيد

عندما استيقظ سريع وجد نفسه يتألم من وجعٍ في صدرِه في ردهةٍ تعجُّ بالروائح المُطهِّرة .. على جانبيه أسرَّةٌ تضمُّ أقراناً مثلَه يتألمون . وأمامَه يخطرُ أناسٌ يرتدونَ الصداري البيضاء . بعضهم يُعلِّق على صدرِه سماعةَ فحصٍ ، وآخرون يمسكونَ ضَماداتٍ ، وقنانيَ حقنٍ ، وطَبَلات يطالعونها عندما يقفون أمام الأسِرِّة … بعد قليل يتولون معالجةَ جريحٍ فُغِرَ جرحُه فنزَّ عن دمٍ قانٍ ، ويحقنون آخرَ بحقنةٍ مُهدِّئةٍ فيتركونَه ينعمُ بالارتياحِ ؛ وينام .
البياضُ ينتشرُ على الجدرانِ ؛ أمَّا النوافذُ فزرقاءُ بلونِ السماء … يقتربُ منه رجلٌ طويلُ القامة ، محمَّر الوجه . والعينان تعجُّان بسوادِهما . يرسمُ ابتسامةً لطيفة ، ويخاطبه :
« ها .. شلونَك اليوم ؟ «
فيردُّ بفمٍ ملآن يُعبِّرُ عن امتنانٍ :
«أحسن مِن أمس .. ولكنْ هل زالَ الخطرُ ، يا دكتور ؟»
يترقرقُ سوادُ عَيني الدكتور :
« زالَ إلى الأبد .»
« يعني هل ستَّتصِلونَ بأمي لتأتي لزيارتي ؟ «
ابتسامةٌ رحيمةٌ يُمطرُها سوادُ العينين :
« لا .. لا .. لم يبقَ الا القليل . سنمنحكَ اجازةً مَرضية طويلة … لا داعي لطعنِ قلبِها .. عندما تستلم اجازتَك لا تخبرها بما جرى … احسب نفسكَ قادمٌ من وحدتِك العسكرية .»
« ولكنّها ستشاهد الجرحَ وإنْ التأم … الجراحُ تتركُ اثراً لا يُمكن محوُه ، يا دكتور . «
« ما هذا ؟! … أنتَ تتحدَّث مثلَ الشعراء .. هل أنتَ شاعر ؟ « تتكرَّس غمازتا وجهِ الدكتور وهو ينتظرُ الرَّد مُندهشاً .
يبتسم سريع من تحتِ ساترِ الضَّماد :
« لا ، يا سيدي . لكنَّ الحروبَ تُفجِّر قرائحَ النفوس … كان استاذي في الاعدادية المركزية في العشَّار يكتبُ الشِّعرَ ويقرؤه علينا عندما ينتهي من المحاضرة ويجد فسحةً تسبق فرصةَ ما بعدَ الدرس . «
« أتقصد السيّاب ؟» ، يقولُها بابتسامةٍ تنمُّ عن رغبتِه في مواصلةِ الحديث .
« لا ؛ انَّما هو متأثرٌ بالسيّاب ، لكنَّه يكتبُ شعراً مُختلفاً … البصرةُ طوال عمرِها تُثمرُ مبدعين .»
« سأضيف لإجازتِكَ يومين على هذا الجواب .. أعجبتني !»
« شكراً لقلبِك الرحيم ! «
« ولكن قبلَ ذلك ؛ هل تحفظ لأستاذِك ذاك من شعرٍ .. شوَّقتني لسماعه .»
« قليلٌ .. قليلٌ ، يا دكتور .»
« أسمعني من القليل .. هيّا . «
ويروح سريع من بين ثنايا الجرح ، وجهدِ الرئتين للتنفس ، وشوقِ القلبِ للحديث مع أمِّه يُردد :
« القلبُ هو
تلكَ الأوراقُ المُكدَّسةُ
بمواجهةِ الريح .»
« الله! .. الله ! … وبعد ! «
« كان قويّاً يقارعُ الشوكَ
ودهاءَ الذئابِ ، وأعاصيرَ المخالب
التي تقولُ الشرَّ ، وتتركُ أثارَها
أحزاناً لا تنتهي .
ومع ذلك لم تثنهِ الأخاديد ؛
ولا ألقَت به كفُّ الأقدارِ
إلى سدرةِ الأمان .
قال : أقمتُ الذراعَ على قَبضةِ الكفِّ القويةِ .
أسرجتُ حزني على جوادِ الريح
أوسعتُ أبوابَ الكهوف ، ونلتُ المنى .
قلت للمقادير :
ما عدتُ أطيق سمومَ القيظِ ،
ولا آبهُ بضغائن الفِخاخ .
لذا صاحبتُ المتنبي رفيقاً ،
واستعنتُ بحكمةِ
رهينِ المحبسين .
« الله ! الله .. ما أعذبه من شاعر ! .. هل تتذكَّرُه الآن ؟ «
لا يدري سريع ما قاله للدكتور … ولا يتذكَّر ردَّ فعله …
ذلكَ أنَ الجلطةُ الدماغية التي ضربته قبل ثلاثة أعوامٍ أطاحت بمملكةِ ذاكرته ، وهشَّمت لديه خمسينَ عاماً ؛
فتركته هائماً يتعثرُّ بأيامٍ تمرُّ كالهَباء ، وبعينين تسكُبان رثاءهما على ديباجةِ كفِّه التي شرعت تتراخى .

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة