الأمن في عالم شاسع مضطرد الانفتاح

عندما ارست الدول الاوروبية اسس نظامها الامني الجديد كانت قد عبرت حقولاً من الالغام والاوهام السائدة في القارة الاوروبية التي غمرتها الحروب الاهلية الداخلية على مدى قرون حمرٍ دامية استبدلوا فيها عدة رايات وانتظموا في عدة كيانات وتبنوا عدة ايديولوجيات. النظام الامني الجديد استبدل الحرب بشراكات شاسعة بين دول القارة التي توالى انضمامها الى الاتحاد الجديد. وهو بالتالي جعل الحرب بين الدول المتعاقدة ضمن الاتحاد الاوروبي منشغلين بكل شيء سوى التجييش والاستفزاز والتحريض والابتزاز المعتمد على القوة العسكرية وببساطة منشغلين عن كل تلك السياسات التي دفعت شعوب اوروبا ثمنها غالياً.

ان مغادرة الدول الاوروبية لخطابات وايديوجيات الحرب لم تتوقف عند القارة القديمة فقط بل تعدتها الى تعاقد امني مماثل مع الولايات المتحدة ومع اليابان ومع الهند ومع كتلة اميركا الشمالية كلها تقريباً. لقد حولت العقيدة الجديدة لأوروبا العالم كله شركاء في السلام وبهذا انتقلوا بشعوبهم ونقلوا البشرية الى ضفاف سلام عالمي اطلق يد شعوبها وعقول شعوبها في البحث عن التطور والتقدم الحضاري والاقتصادي والتنافس في ما بينها وبينها والعالم الى مجالات الابتكار والإبداع العلمي والتكنولوجي. وهم نجحوا ايضاً في تحويل مؤسسات الحرب الباردة وفي مقدمتها مؤسسة حلف شمال الاطلسي «ناتو» الى مؤسسات لحفظ السلام والمساعدة على ادامة فرص السلام في العالم.
نحن، في الشرق الاوسط وبضعة مناطق من افريقيا وآسيا، من بقي خارج هذه الدائرة المسالمة التي حولت اقتصادات الحرب وفلسفات الحرب الى شيء من الماضي. ويشهد العالم ان بؤر التوتر والتوتير انما تنطلق من منطقتنا وبالتحديد الشرق الاوسط. طبعاً لن نستثني هنا الكيان الصهيوني الذي لم يتمكن من التمايز عن المحيط والانضمام الى فضاء السلام بسبب استعصاء عملية اقناع القيادة الإسرائيلية بالسلام بتنفيذ القرارات الدولية المتصلة بمعالجة المأساة الفلسطينية النازفة وهكذا فإن التحدي الذي نواجهه نحن ربما يكون قابلاً للحل والتسوية وبالتالي الانخراط في مشروع السلام الإقليمي، كما فعلت اوروبا، الا ان المأزق الإسرائيلي ربما سيكون الأعقد والكثر عسراً على القيام بذلك. ويشبه مصيره ما حصل مع دولة التمييز العنصري روديسيا (ولاحقاً جنوب افريقيا) التي انتهت الى تفكيك منظومتها الأمنية والآيديولوجية كثمن لتسوية مأزقها الاخلاقي والسياسي والعسكري وعربوناً لإدماجها في المجتمع الدولي والاسرة العالمية.
اما في منطقتنا فما تزال الايديولوجيات السقيمة تنشب انيابها في جسد شعوبنا تحت مسميات مختلفة منها مسميات دينية وقومية وطائفية لا تشذ أجمعها عن العقائد الفاشية والدكتاتورية النابعة من افكار قبائل ونظم القرون الوسطى. فعقائد الحرب الشعبية تبدو سائدة وفيها يجري نهر الانتقام والتصفية والإبادة والاستعباد للآخر من دون عوائق. وفي المقابل تبدو عقائد وافكار ودعوات السلام عنصراً معزولا وهامشياً بعد ان نجحت القوى الرجعية مستفيدة من مناخات الحرب الباردة في هزيمة تيارات التقدم والتنوير والتطوير الحضاري.
ان الانظمة السائدة في المنطقة ترتكز اليوم على عقائد توسيع دور العنف والعسكرتاريا بكل انواعها في بلداننا. وفي هذا الطريق لا بد لها ان تنشئ مؤسسات تحترف فرض الامن على السكان فرضاً وإشاعة ثقافة الحروب كمخرج من الأزمات تحصل من خلاله على اخضاع اعدائها الافتراضيين. ان المشهد هذا يشبه ما يقال انه صيف وشتاء في وقت واحد. ففي وقت تنشغل شعوب العالم في توظيف مواردها في التنمية والتطوير وتوسيع التعاون مع الكتل المتقاربة جغرافياً او المتباعدة حتى، نجد ان بلداننا تنشغل في جملة معقدة من المعضلات العصية على الحل والتي تستنزف طاقاتنا القليلة وتبدد امكانياتنا البشرية في مغامرات غير ضرورية.
ان السلاح الاقوى في يد المغامرين ومشعلي الحرائق في منطقتنا هو القمع والتجهيل فمن خلال القمع تغلق نوافذ العقل الوطني وتتضاءل فرص الجدل وتبادل الافكار والنقد والمراجعة. ومن خلال العنف تعمد دول الفاشيات والدكتاتوريات المتخلفة الى عزل الشعوب عن العالم لمنع التفاعل الإنساني والتبادل المثمر للتجارب او اقلها الاطلاع عليها. اما التجهيل فهو السلاح الآخر الذي يسمح باستمرار انحطاط الأمم والدول ويسهل زرع الاوهام والمخاوف والافتراضات العدائية تجاه كل ما تكرهه الدول والانظمة المتخلفة . ان هذين الفرعين من فروع الهيمنة الفاشية بكل فروعها الدينية والقومية والطائفية يعملان بالتماسك والتشارك والتضامن للإبقاء على سيطرة الحكومة على الامة. وهما يقومان بإعلاء قدر الحكومة وتمجيدها وتعزيزها وتبجيلها على حساب الامة والشعب. فيتحول الحاكم الى مقدس والمدير الى معصوم عن الخطأ والحزب السياسي الى المرجع الاول والاخير للتفاعل والنشاط.
ويعكس هذا الواقع مفارقات جوهرية على المشهد العام للممارسة السياسية التي يمكن القول انها تترجم وتعكس بيئة الحياة الأعمق لدى هذه النماذج. ففي الدول الحديثة جرى تقليص نفقات كل قطاع غير منتج وغير ضروري ووجهت الموارد المتاحة للدول نحو تنمية فرص الغنتاج. ولو رغبنا في عقد بعض المقارنات البسيطة عن عناصر التمظهر العسكري والامني بين الدولة الحديثة السلمية والدول التي نحن منها لوجدنا الكثير من المفارقات. فالممثلون المحليون للسلطات في بلداننا وهم المسؤولون والنواب وامثالهم يحتاجون الى فرض هيبتهم على قدر من السلطة العسكرية لذا فهم يتحمسون لفكرة توزيع عشرات الحراس المباشرين لهم خوفاً عليهم من مغبة انتقام المجتمع او المعارضين. وفي ما يبلغ عدد الحراس الشخصيين في العراق اكثر من 80 الف شخص تحت السلاح نجد ان الجيش الهولندي برمته لا يزيد عديده على 40 الفاً. اي ان حراس النواب والوزراء يبلغ ضعف عدد افراد جيش اوروبي متقدم.
ان هذا المثال لا يمثل الا جزءا صغيرا في عالم السلطات الفالتة عن منطق العالم المعاصر ويمكننا ان نضرب غيره كثيرا، ولكننا نرى ان هذا المثال وحده يؤشر عمق الخلل وتعقيد المشكلات التي نواجهها.
ان الدول «الأمثلة» التي نتحدث عنها ليست من نوع واحد وتتباين مع بعضها وفقاً لحجم اقتصاد الدولة ومدى تطور وارداتها وحجمها الجغرافي والديمغرافي. ويمكننا ان نسوق اشكالا اكثر اثراً في سلوك واداء الدول تحت سطوة الآيديولوجية فمثلاً عندما تختار الصين شعار الاكتفاء الذاتي من الغذاء تبدو لطيفة وواعية بل وطنية في مجمل الاحوال. ولكننا لو امعنا النظر في السوق العالمية للغذاء لوجدنا ان الصين تنزلق بقرارها التزام مبدأ الاكتفاء الى نزيف مالي بمليارات الدولات، والحقيقة ان المنطلق الجوهري يكمن في اعتقاد المخطط الصيني انه يقود معركته ضد العالم كله دفاعاً عن النمط الشيوعي الذي تتبعه الحكومة المنقادة من قبل الشيوعيين. وفي حقيقة الامر فإن الإصرار على الاكتفاء الذاتي امر لا موجب له في ظل وجود سوق عالمية للقمح والمواد الغذائية لا تتحكم به مجموعة دولية او تسيطر عليه. والداعي الى المثال هو ان الصين تنتج قمحها المحلي بكلفة تزيد 50 دولاراً لطن القمح المتاح في الإسواق.
هكذا فإن دكتاتوراً ما او نظاماً شبيها به، يمكنه ان يفرض على المجتمع سياسات وطنية مضرة بالمجتمع والامن لأنه اولاً يقمع السكان ويخيفهم ويرهبهم فيما الموطنين منعزلون عن العالم والتجارب العالمية .
من هنا يمكننا القول ان استمرار تسلط الانظمة غير الديمقراطية انما هو وصفة للبؤس والحروب والمعضلات المتوالدة من قرارات سلطات جاهلة وضيقة الافق لا يمكنها ان تعيش من دون ترويع المجتمعات وخلق خصوم وهميين بدواع وهمية ملفقة.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة