عادل عبد المهدي والمسارات المجهضة

4على مدى خمسة عشر سنة تمتد ما بين آذار 2003، وحتى الان، تذبذبت العملية السياسية في البلاد ما بين توجهات الأحزاب والكتل السياسية، والمناكفات فيما بينها جراء حسابات المصالح تارة، والاستحقاقات الانتخابية التي تمخضت عنها الدورات البرلمانية الماضية، وحتى اتسمت العملية السياسية هذه بالفوضى او كادت.
وزاد في تعقيد الامر، الاعراف التي لجأت اليها الأحزاب والكتل، في تحقيق أهدافها، والتي تتمثل بالمحاصصة، والتوافقات، والتي تلبس بمجملها لبوس القومية والطائفية بعيدا عن غايات الدستور والمعنى الحرفي للديمقراطية والمصالح العامة وتطلعات المواطنين الذين فقدوا ثقتهم بالحكومات على اختلافها والنظام السياسي، جراء استشراء الفساد واستفحال المحسوبية، والطائفية والعشائرية بل وحتى المناطقية في التعيينات الى الحد الذي جعل الدكتور حيدر العبادي رئيس الوزراء الأخير يقول في احدى تصريحاته، ان المحسوبية والعشائرية في التعيينات طالت حتى وظيفة المدرس في بعض المحافظات التي نقلت اليها صلاحيات وزارات الدولة، وبما يعني ان ما ذهبنا اليهن لم يقف عند حد العاصمة والحكومة المركزية ومجلس النواب، وانما تعدى ليعم العراق كله، بحكوماته المحليةن الأمر الذي يعني بدوره ان التمييز شمل أبناء المحافظة الواحدة وربما القضاء والناحية فيها.
اكثر من هذا، تجلت الخلافات الحادة، بين الأحزاب في نتائج الانتخابات لكل الدورات الانتخابية البرلمانية السابقة، اذ كان تشكيل الحكومات يتاخر بالاشهر، لتتأخر جراء هذا الموازنات المالية فتتعطل المشاريع وتتعطل معها ارزاق المواطنين.
كل هذا دفع المواطنين الى التذمر والاعلان الصريح عن موقفهم المضاد للعملية السياسية برمتها، ولعل التظاهرات التي حدثت في البصرة خلال الشهور الأخيرة، جراء تردي الخدمات، وشحة المياه وتوقف مشاريعه من اهم الأدلة على هذا التذمر، الذي اضطر الكتل والأحزاب السياسية الى الإذعان على مضض حين وجدت انها ما عادت مرغوبا بها سيما بعد اعلان المرجعية الرشيدة في النجف الاشرف موقفها المضاد من كل الذين شاركوا في الحكومات ودورات مجلس النواب السابقة، وهي التي كانت أصلا قد عبرت في مناسبات عدة عن استيائها من سير العملية السياسية.
من هنا كانت الحاجة الى بديل ينقذ المركب قبل غرقه، ونسيان الخلافات ولو مؤقتا، وتكليف مستقل بتشكيل الحكومة الجديدة، واختير الدكتور خبير الاقتصاد عادل عبد المهدي ليكون هذا المكلف الذي يقع على كاهله اليوم عبء إعادة ثقة المواطنين بالعملية السياسية، بصياغة حكومة تلتزم بمفردات الدستور وتضع حقوق المواطنين في اعتبارها الأول.
يتحدر الدكتور عادل عبد المهدي من عائلة كبيرة ومشهورة من عائلات الفرات الأوسط .. وبالتحديد من قضاء الشطرة والذي يعرف بالمنتفك او الناصرية .. والمنطقة هي حاضنة ثورة العشرين الكبرى .
عاش السيد عادل المنتفكي جل عمره في بغداد وزامل شخصيتين سياسيتين اتيح لهما ان يلعبا الى جانبه دوراً كبيرا ً في تاريخ العراق الحديث وبالتحديد الفترة الحاسمة بين الثمانينات وحتى سقوط نظام صدام حسين . وبرغم ان كلية بغداد جمعت الزملاء الثلاثة الا ان تعليمهم ما كان كافياً لتوحيد مواقفهم اللاحقة ..
تصادف وجودي في بيروت نهاية السبعينات وكنت هاربا من بطش العفالقة مع وجود السيد عادل عبد المهدي .. كنا نتنفس المعارضة للدكتاتورية التي لم تتحملنا كما لم تتحمل عشرات الالاف من العراقيين الأحرار الذين رفضوا تبديل كرامتهم وحريتهم بمكاسب ووعود النظام .. عادل عبد المهدي كان على وشك المغادرة الى باريس او انه كان يتنقل بينهما للدراسة التي اكمل برامجها الضرورية للدكتوراه قبل ان يختلف اختلافا لا حل له مع الأستاذ المشرف الذي ما كان متعاطفا مع افكـار عـادل واطروحاتـه.
من هنا تشكلت شخصية عادل عبد المهدي السياسية .. فهو بعد ان خبر المدارس الإيديولوجية الوضعية والشمولية وتشرب بمعطياتها وتوجهاتها وجد ان تغييراً معتبرا في الواقع السياسي الراهن في العراق لا يمكن ان يتم الا من خلال سياسات تستوعب النسيج الفكري الشعبي والتاريخي والديني .. وبوسع هذه السياسات الإفتراضية ان تكون جذابة كفاية لتحريك شرائح شعبية كبيرة وواسعة ..
ببساطة غادر عبد المهدي زورق الفكر القومي منتصف الستينيات بعد ان فاحت منه روائح الدم ووصل الى طريق مسدود مع الفكر الماوي الذي كان جذاباً بما فيه الكفاية لمتنور في مقتبل الخيارات الفكرية المصيرية .. وبديهي ان كلا المنهجين كانا ينطلقان ويتوجهان نحو الناس الاعتياديين او انه يستخدمهم كمحرك للتغيير .. في نهاية عقود ثلاثة تغير عادل عبد المهدي ولجأ الى موروثه المتاح، موروثه وموروث عائلته وبيئته الإصلية .. فهو سيد بالمعنى العراقي البحت ، اي انه ينتسب الى شجرة الرسول الكريم وامتداداته البشرية من احفاد واجداد .. وكما كان والده السيد مهدي المنتفكي ، الوزير في حكومة الملك فيصل الثاني والنائب في البرلمان العراقي ، محسوباً على بؤرة الحكي الروحية والشعبية وهي بؤرة اثرت كما لم تؤثر غيرها في تكوين الذاكرة الشعبية في الناصرية والنجف والكوفة . اذن عاد عادل الى كنف عائلته التاريخية .. وجاء محملاً بمناعات قوية من غوايات فكرية كانت فاعلة في اجواء ومساحات واسعة في الشرق والغرب والجنوب وبالتحديد في العالم الثالث ..
كان دخول عادل عبد المهدي الى قوام الحركة الإسلامية منسجماً مع لحظة تأريخية نادرة هي الثورة الإيرانية . وهي ثورة جذبت اليها عقول وقلوب الملايين ذلك الوقت ونجحت في تجميع ملايين البشر وتحريكهم نحو وجهة تغييرية نادرة الحصول في التاريخ الحديث .. ووجد عادل في روح الثورة الإسلامية في ايران ما يجيب عن سؤاله الكبير عن كيفية انهاض هذا القدر البالغ الضخامة من الجماهير بعد أن فشلت الماوية والقومية العربية في انهاضه .
ولعل عادل عبد المهدي قد استوحى فكرة عودته الى المخزون الشعبي الإسلامي وتمثلاته السياسية وقتذاك من مبدأ سياسي فرنسي شاع اواسط السبعينيات او نضج بالأحرى بين منتصف الستينيات ومنتصف السبعينيات عندما عمد السياسي الفرنسي الشهير ريجيس دوبريه الى الدخول مجدداً الى الحزب الإشتراكي الفرنسي بعد سنوات من التمرد الثوري برفقة ارنستو شي غيفارا الذي انتهى قتيلاً على يد المخابرات المركزية الأميركية في غابات بوليفيا بعد معارك واسعة مع الجيش البوليفي المدرب على يد اليانكي الأميركي .. وكان دوبريه قبل عودته الى المسرح السياسي سجينا في بوليفيا لتعاونه مع غيفارا وتمكن من التفكير والتأمل لمدة كافية خرج بعدها الى باريس المتلهفة لعودته ليبشر بمبدأ « الدخولية « ، في اشارة الى نفض يديه من فكرة الكفاح المسلح الذي الهب عقول وقلوب الملايين من المناضلين في قارات العالم كلها ..
عادل عبد المهدي عاش تلك التجربة وامتص بهدوء كبير ثمراتها وخلاصاتها وانتهى كما انتهى غيره من الثوريين في عاصمة اوروبا الثورية وقتها : باريس الى الإقتناع بـأن اي تأثيـر ممكـن في الجماعات البشريـة لا يمكـن ان يجري بمعـزل عـن استغـلال واستخـدام والإنتفـاع مـن واقعهـا الفكـري والدينـي والتاريخـي ..
ومع ما يميز تجربة عادل من جرأة ونضج الا ان الأرض التي وقف عليها لم تكن ممهدة تماماً لدخول هذا المثقف الثوري والمتشبع بروح العصر وفلسفاته . وعلى عكس النجاحات التي احرزها اسلافه واجه عادل عبد المهدي الفشل تلو الفشل .. وينسى الكثير من الناقدين له انه لم يقصر في مواجهة تحدياته وادار صراعات سياسية لم يحالفه الحظ .. بل ان قوى كثيرة محلية وغير محلية لم تتمكن من هضم شخصيته وابقته على الدوام على حافة النصر حتى اللحظات الأخيرة حيث يظهر للعيان ان عتاد عادل الفكري ونضاله وتناسبه التاريخي وتناسق افكاره عن الحكم كان يجري صده بسبب الأهواء الإقليمية واصرار الدول والعواصم المؤثرة على مسارات السياسة العراقية على رفض هذا البراغماتي المتنور ومنعه مـن الوصـول الـى حيـث يستحـق.
في مرتين ازيح عادل بفعل التأثير الإيراني الفاضح والعلني .. لا يمكن تصور الخلفيات التي افضت الى خصومة طهران واركانها مع عادل .. ولربما كان بعده الفرنسي وثقافته تستفز الإيرانيين الذين ورثوا الأمام الخميني وظلوا يخشون تكرار شخصية ابو الحسن بني صدر ، رئيس الجمهورية الإيرانية السابق الذي ضاق صدر قيادة الثورة الإسلامية بليبراليته وتوجهاته السلمية . وربما يكون لقربه من مصادر القرار الأميركي اثناء الإحتلال للعراق هي السبب . فهو كان مشاوراً ايجابيا وموثوقاً حظي بثقة الدبلوماسية الأميركية واقنعها بمقدرته على ادارة شؤون البلاد ..
اسماعيل زاير

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة