محمد مهدي عيسى
«أنا ذاهبٌ ومعي فكرة طيّبة جديدة: أنّ العظماء أبسطُ، وأكثرُ فهمًا، وأقربُ بأرواحهم، من كلّ هؤلاء الحقراء الذين نعيش بينهم. وداعًا! لن أنساكَ أبدًا» (مدرِّس في الريف الروسيّ، مخاطبًا تشيخوف).
«في هذه السخرية الرقيقة الحزينة، تحسّ بالتشاؤم الرهيف لشخصٍ يعرف قيمةَ الكلمة وقيمةَ الأحلام» (مكسيم غوركي، واصفًا حديثَ تشيخوف)
إحدى أسوأ الظواهر التي عرفتْ طريقها إلينا ذلك التهشيمُ الذي أصاب صورةَ المثقّف، إذ صار نعتُ أحدهِم بـ»المثقف» نعتًا ينوس بين المدح والذمّ! لقد استُبدلتْ بسلّة دلالات كلمة «المثقف» وقيمِه الأخلاقيّة النبيلة ــــ مضافًا إليها المهارةُ والمعرفةُ العلميّة والفنيّة والأدبيّة ــــ سلّةٌ أخرى على رأسها التحذلقُ والتكلّفُ واستغلالُ المعارف استغلالًا سلبيًّا. ولمّا كانت المعرفة وجهًا من وجوه السلطة التي لا يُسمح إلّا لنَفرٍ قليلٍ بحيازتها، فإنّها لن تكون في حالة تجرّدها من القيم الأخلاقيّة إلّا آلةً للسيطرة والتكبّر والتكلّف، ووسيلةً لكسب المزيد من المنافع الذاتيّة من أيّ طريقٍ أتى.
لا شيء أدعى إلى غرق المثقف في وحل التفاهة من تقهقره عن ممارسة الشغل الثقافيّ المدفوع بالواجب الأخلاقيّ. هذا ما علّمنا إيّاه أنطون تشيخوف في دروس حياته الشخصيّة وحياته الأدبيّة. فقد أرانا كيف نتردّى جميعنا في تفاهة العيش حين نستسلم لواقعٍ مَصوغٍ سلفًا، فلا نُجرّب تغييرَ سياق الأحداث بدافعٍ من حسّنا الأخلاقيّ والجماليّ. لقد كان هذا المأزقُ الذي أصيب به المهمَّشون والمثقفون (على السواء) هو ما يثيره طوال حياته؛ فهم مستسلمون لأقدارهم، غارقون في نزواتهم الذاتيّة، وراضخون لأجواءٍ بليدةٍ تُلْقي بثقلها على كلّ حياتهم. ولهذا فإنّ أبطاله مجرّدُ أناس عاديين، ربّما لأنهم لم يجرّبوا إلّا نادرًا أن يكونوا «أبطالًا.» وهم، على الرغم ممّا لديهم من معارفَ كثيرة، محرومون الانتفاعَ بها لتغيير حياتهم البائسة.
فها هو بطلُ روايته، حكاية مملّة، نيقولاي ستيبانوفتش، المستشارُ السرّيّ والأستاذ الجامعيّ المرموق، والمعروف بلقب «الحاجز الأيقونيّ» لكثرةِ ما يَحمله من أوسمة، يعاني رهبةَ الموت القريب، ولامبالاةَ عائلته بمرضه وشيخوخته. إلّا أنّ الموت الأعظم الذي كان يخيّم عليه إنّما هو موتُه المعنويّ. فهو، على ثقافته وشهرته، ذو تأثيرٍ محدودٍ في نطاق عائلته ورفاقه، وهو ليس أكثرَ من أستاذ يتلذّذ برسوب تلامذته، ويعيش في عالمٍ محدود الأفق، يَشغله مثقفون يَعكسون بدقةٍ حالةَ المثقفين الروس في نهاية القرن التاسع عشر، في خضمّ اليأس الذي أصابهم بعد فشل ثورة الشعبيين،(1) والتشديدِ على قنوات الرأي.
أمّا النموذج الثاني الذي ذكره تشيخوف فهو منحوتٌ على صورة بعض المثقفين الذين يردّدون العباراتِ الجاهزة من غير أن تكون لهم أيّةُ مساهمةٍ جديدة. وهذا النموذج يمثّله بيوتر اجناتيفتش، مساعدُ نيقولاي ستيبانوفتش في التشريح؛ فهو «كنز» من حيث قراءته ضمن مجال اختصاصه، لكنّه ليس أكثرَ من «حصان جرّ» في ما هو خارج هذا المجال.
كذلك نلتقي في الرواية شخصيّةً هامشيّةً لكنّها لافتة، وهي شخصيّة الكسندر أدولفوفتش جنيكر، المغرم بابنة نيقولاي ستيبانوفتش. وهو يمثّل حالة المثقفين العديمي الموهبة، أو لنقلْ إنّ موهبتهم الوحيدة تكمن في إقامة علاقاتٍ وثيقة مع المشاهير وفي تردّدهم على الحفلات. وقد عبَّر نيقولاي ستيبانوفتش عن هذه الحالة بدقة حين قال: «يبدو أنّه لا يوجد في الدنيا عِلم أو فنّ يخلو من وجود أجسام غريبة مثل جنيكر هذا.»
***
إنّ المثقّفين من أبطال هذه الرواية (التي وصفها توماس مان بأنّها «شيء غير عاديّ، شيء ساحر لن تجد له مثيلًا في الأدب كله») هم على النقيض من النموذج المثاليّ الذي كان تشيخوف يعتقد أنّ على المثقف تمثُلَّه. فلقد آمن تشيخوف بأنّ على المثقف أن يكون لصيقًا بالهموم اليوميّة لعامّة الشعب، وأن يمارس واجبَه الإنسانيّ تجاه شعبه، وأن يواظبَ على ما يشبه الرياضةَ الروحيّة من أجل التخلّص من الغرور والكذب والنزق والتكلّف. ولقد وضع تصوّرًا عن المَلَكات التي تجب على المثَّقف تنميتُها، وذلك في رسالةٍ بعثها إلى شقيقه الأكبر، الفنّان التشكيليّ الموهوب، نيقولاي تشيخوف، وهي أشبه ببرنامج أخلاقيّ كامل.
فبعد توجيهه اللومَ إلى أخيه لكونه دائمَ التبرّم من أنّ أحدًا لا يفهمه؛ وبعد أن أظهر له سببَ مشاكله المتمثّلَ في إخفاقه في تحصيل الثقافة؛ أوضح له الشروطَ التي يجب أن يستوفيَها المثقفون، ومنها:
«هم دائمًا ودودون، دمثون، مهذّبون، ومُستعدون للعطاء…؛ إنهم يَسهرون الليلَ لمساعدة شخصٍ ما، ولدفعِ نفقات الإخوة في الجامعة…؛ إنهم مخلصون، ويخشوْن الكذبَ كما تُخشى النار؛ لا يعانون الخُيَلاء والغرورَ، ولا يأنفون من مصافحة السِّكّير…؛ إذا كانت لديهم موهبةٌ فإنّهم يحترمونها، ويضحّون في سبيلها بالراحة والنساء والخمر والخُيلاء.»
لكنْ، ماذا على المثقف أن يعرفَه أو يحفظَه؟ يعلّق تشيخوف مجيبًا أخاه: «لكي تكون مثقفًا، ولا تكونَ في مرتبةٍ أدنى من المحيطين بك، لا يكفي أن تقرأ أوراق بيكويك، وتحفظ منولوجًا من فاوست.»
***
هذه الأخلاقُ الرقيقة التي كان تشيخوف يقدّر وجودَها في المثقف لم تتجلَّ في حياته الشخصيّة فحسب، بل كذلك في أدبه. ففي هذا الأدب تسطع روحُ البساطة والعفويّة اللتين شكّلتا جوهرَ دعوته إلى بناء عالمٍ جديدٍ بعيدٍ عن الزيف والنفاق. فأدب تشيخوف يتّخذ من المهمَّشين والمسحوقين (كالحوذيّ والبوّاب والفلّاح) موضوعًا له؛ ذلك لأنّ على الأدب أن يشابه حقيقة الحياة.
***
أما حياته، فقد كانت هي الأخرى تكشف عن روح إنسانٍ عاش الثقافةَ، كما يفهمها، قبل أن يعيش منها. فقد كان دمثًا، طيّبًا، يعطف على بسطاء الناس، الذين قابلوه هم أيضًا بحبّ كبير. وكثيرًا ما كان يراسل كتّابًا ناشئين، ويُسدي إليهم النصائحَ، غيرَ مترفّعٍ عن تحرير بعض قصصهم، أو عن دعوتهم إلى بيته للكتابة بشكلٍ مريح. وكان كثيرًا ما ينصحهم بأن يختلطوا بالناس لتكون قصصُهم معبِّرةً عن أوضاع الشعب. فقد كتب إلى صديقه مكسيم غوركي مرّةً، داعيًا إياه إلى أن يسافر «عامين أو ثلاثة، سيرًا على الأقدام، أو راكبًا في الدرجة الثالثة، كي تلاحظَ عن قربٍ الجمهورَ الذي يقرأك.»
أما بشأن الجوائز والمناصب فلم يكن تشيخوف، شأن بطل روايته قلادة آنا، مهووسًا بها. فقد سارع إلى الاستغناء عن منصبٍ فخريّ في أكاديميّة سان بطرسبرغ للعلوم حين استُبعد عنه صديقُه الواعد مكسيم غوركي بسبب مشاركاته السياسيّة المعارضة للحكم القيصريّ.
***
لقد ظلّ تشيخوف، طوال حياته القصيرة، ملتزمًا الشروطَ التي بيّنها في رسالته لأخيه، والتي رأى أنّ تحقُقها واجبٌ على كلّ مثقّف. كان بإمكانه إيهامُ نفسه بأن المثقَف هو ذلك الرجلُ الذي يستطيع ارتجالَ عباراتٍ بليغة، أو التحدّثَ بأمورٍ لا يفقهها البسطاءُ، أو لا يفوِّت مؤتمرًا أو لقاءً. وكان، بما يملك من خيالٍ جّم، قادرًا على الجلوس خلف مكتبه طويلًا ليَكتب عن البؤساء من دون أي يراهم، أو ليُمجّدَ السّكّيرَ من دون أن يصافحه. لكنه لم يفعل. بل قصد الموتَ قصدًا حين ذهب إلى جزيرة «سالخين» للكتابة عن المنفيين والمعذَّبين عن كثب. كأنّ قدرَ هذه الصفوة من المثقفين أن يموتوا سريعًا.
لكنّ ما يتغلّب على سرعة موت الأديب إنّما هو خلودُ أدَبه.
بيروت
(1)أسس الشعبويون الروس حركة ثوريّة ديمقراطيّة طالبتْ بإلغاء النظام القيصري وتوزيع الأراضي على الفلّاحين والحدّ من سلطة رجال الشرطة وفساد الموظفين. وقد لجأوا الى العنف الثوريّ فيما بعد، ونفّذوا عددًا من المحاولات لاغتيال القيصر الكسندر الثاني.