علوان السلمان
….الفن بكل تشكلاته(هو الانتقال من ارادة النفي الى ارادة الاثبات..اثبات مفارقات الحياة وتناقضاتها وتحويلها الى ظاهرة فنية وجمالية) على حد تعبير نيتشة..
وفن السرد النتاج الابداعي الذي يخلق شكله التعبيري وتقنياته من عمق التجربة المنتجة والذي شهد على الامتداد التاريخي تحولات بنيوية في اجناسه..كونه نصا متمردا على الثبات..ابتداء من الحكائية وانتهاء بالقص القصيروالقصير جدا آخر حلقات التحول الكاشفة عن مكنونات الذات والذات الجمعي الآخر بالارتكاز على المرموزات من اجل انتاج وعي متجاوز للواقع..
وباستحضار المجموعة القصصية (حكايات الرمل) التي انتجتها ذهنية واعية لذاتها والموضوع ونسجت عوالمها انامل القاصة عالية طالب واسهمت دار اور للطباعة والنشر في نشرها وانتشارها/2017..كونها تقوم على عدة مهيمنات.. تأتي في مقدمتها زاوية الرؤية المحققة(للرؤيا المصاحبة) على حد تعبير جورج ايلان..مما يميزها بالتبئير الداخلي الثابت(حسب جيرار جنيت) حيث يمر كل شيء من خلال الراوي العليم(المنتج)..والتي تستدعي مهيمنة الحوار الذاتي..فانقسام السرد الى عالمين:اولهما واقعي يكشفه سرد الاحداث وثانيهما تخييلي..حلمي يحققه حوار ذاتي(منولوجي)..
(يستيقظ عقلي بتراخ عجيب وكانه يتدحرج من شلال بارد ودافيء في وقت واحد..أسمع هسهسة الاغطية والفرش حولي…أفتح عيني فتستجيبا بليونة تدهشني واراه امامي بوجه غارق في استيقاظه المعتاد..يسحب الغطاء عن رقبتي ويهمس مقتربا اكثر..
ـ انت تكلمين نفسك وانت نائمة كلام طويل ومتقطع..
ابتسم بحب واساله: ـ هل تابعت كل ما قلته؟
ـ لم افهم عباراتك كانت متداخلة مع بعضها.. منذ متى تتكلمين وانت نائمة؟
ـ كيف لي ان اعرف منذ متى وانا اكلم نفسي او من كان معي في احلامي او عن ماذا نتكلم..ياله من سؤال غريب..هل استطيع ان استدل على ما يفعله جسدي وانا نائمة؟
يعود صوته وهو يلملم الاغطية عن وجهي..تتداخل انفاسه التي احبها بين طيات الشرشف الساقط من علو الشلال..اضحك وانا امسكه بقبضتي واعاندها فتترطب يدي بندى اجد بعضا من قطراته منزلقة من عيني..ويعود سؤاله ليتداخل بين اغطيتي: ـ تبكين ام هي دموع استيقاظ؟
وهل للاستيقاظ دموع تسبقه؟ام ان لعيني اشتراطات فتح واغلاق لا تتوافر لغيري..اخبىء راسي وامسح الندى فوق وجهي واساله:
ـ كنت اقول لك في حلمي اني احبك كثيرا..) ص31 ـ ص32
فالنص يبدو حافلا بنبرة السرد وتقنياته(المكان بشقيه(المفتوح والمغلق) والزمان والشخوص والحدث..) ضمن رؤية تقترب من الشعرية باعتماد التكثيف والايجاز واللفظة الموحية..اضافة الى اعتماد تقنية الراوي المحقق للمشهد من خلال شخصيته التي لا يبوح باسرارها سوى فعل يؤطر الحدث باستحضار صور الذاكرة والصراع النفسي الداخلي والخارجي..فتقدم نصا يتميز بالتشخيص والتركيز بلغة دينامية بافعالها ومشهديتها الصورية التي تشتغل على تثوير الواقع وتحريكه.. ومجازيتها وغنى مضامينها الانسانية وتناسق تراكيبها.. اضافة الى ذلك فالنص ينطوي على دلالات اجتماعية ونفسية وهو يتخذ خطا موازيا يعتمد الانتقالات الزمكانية مع اعتماد المفارقة والسخرية للتخلص من المباشرة..فضلا عن ملاحقة الشخصية ونشر كل تفاصيلها وسلوكياتها من اجل فك شفراتها الملتصقة بها..مع حصر البنية السردية في لحظة تامل وغرائبية تشد ذهن المتلقي وتدعوه الى مراقبة الفعل السردي مع استخدام الخيال والترميز الضمني..فضلا عن انه يتسم بصوره الحسية المتفجرة بغنائية رومانسية شفيفة..اضافة الى اكتظاظه بعنصري الزمن(الحدث) والذي يكشف عن مكنونات الذات وانفعالاتها وعمق احاسيسها..فضلا عن اهتمامه بالبنية الدرامية والفكرة وعنصر المفارقة الاسلوبية والمكان..الذاكرة..باعتباره منظومة ثقافية..اجتماعية داخل مسارات النص..مع انشغال متواصل وثيمة الزمن..ليشكل الصور المتوهجة في بنائها النصي المتوالد وثرائها وعمقها مع تعبير عن هلاميتها المتجاوزة للأطر الثابتة باعتماد التكثيف والايجاز مع اقتصاد لغوي ورمز مستفز للذهن..
(لاصق السياج وهو يحاول ان يقتفي حركة الاجساد دون ان يفكر بالعودة من حيث أتى..مر الوقت بتثاقل وهو يتشبث بالاستماع لصوت قريب يسأله كيف يمكن له ان يتسلق الجدار ليقفز منه الى مسافة تبعده عنهم وهم يغلقون عليه نهاية الشارع الذي قذفوه اليه قبل اكثر من ساعة..لم تساعده الرؤية على اكتشاف وجودهم من عدمه..اخبروه ان عليه عدم العودة وان يكمل طريقه ليصل الى الشارع..اي شارع يقصدون والنهايات لا تفصح عن طرق توصل الى ما ورائها..ادخل اصبعه في الشق عله يلفت انتباه احد ممن يمر لصق الجدار مزامنا حركة الاصبع بهتاف لا يحوي الا كلمة واحدة..ـ ساعدوني..)ص9..
فالنص يضيء خبايا الذات باسترسال سردي متعدد الظلال الرؤيوية مع تركيز على جمالية السياق الحداثي مبنى ومعنى..وهو يستمد تأثيره من خلجات النفس المنتجة واحلامها السابحة في فضاءات المخيلة المزاوجة للواقع من اجل خلق صوربتلقائية تحتكم المنطق القائم على التجربة..والتعلق بالجوهر الحياتي المنبثق من لحظة التجلي التي يستشرفها المنتج كتجربة كيانية انتزعها من سياق الوجود عبر جمله الشعرية التي تتشكل من بنى تأملية اعتمدتها الساردة بقصدية منها(بنية الانا وبنية الانا الاخر وبنية الهاجس..) من اجل تفعيل المخيلة التي تنتج مشاهدا تنبش الذاكرة للكشف عن خزينها المعرفي وتحقيق اثرها..
(الليل الذي كنت اذوب فيه عشقا اصبح كئيبا مرعبا خاليا من الحب..يأتي فتنغلق مسامات الهواء برائحة البارود والموت والتربص ويختفي فيترك بقع الاشلاء وراء بصماته المنسحبة..الليل الذي رافق احلامنا اختفى ولم يعد امامنا الا ظلال موحشة لا ندري كيف نعالج خوفنا منها..اشغل نفسي باعادة ترتيب كل ما بعثرته داخل الحقائب الاربع وصوتي بسألها كل قليل عن مشاركة تأبى ان تعطيني اياها..تختفي (بسمة) داخل صمتها الذي لا اريده هذا المساء وتقف المسافات الصغيرة المتبقية في الغرفة المكتظة حائلا بيني وبين احتضانها الذي يعوضني عن قلقي وتشنجي..أحدث نفسي بصوت مرتفع علها تشاركني الرأي وانا احاول حذف بعض مما رزمته في حقيبتها الممتلئة واعرف ان ابنتي لم يعد يهمها كثيرا ان رزمت او رفعت بعض من مقتنياتها..سلبية صامتة دخلت فيها منذ اكثر من عام واستمرت ترافقها بواقع بات هاجسا مضافا لهواجسي.. عام كامل على مرور لحظات شكلت ذاكرة تكفي لحذف كل ما اختزنته وتشكيل زمن جديد يتدحرج بيني وبينها..) ص56 ـ ص57..
فالنص يستوقفنا عند شخوصه(البيكارسيكية) القائمة على الانسلاخ عن الذات والذات الجمعي والهواجس الداخلية وهي تستمد مضامينه السردية ورموزه من ارضية واقعية بعيدا عن سلطة التجريد..اذ تصور القاصة الصراع النفسي والاجتماعي..فتسجل حضورها بوعي يفصح عن مستويات متماسكة البناء في سياقاتها التوليفية..الكاشفة عن قدرة رؤيوية للواقع الممزوج بالخيال الذي يولي اهتماما باستعادة التاريخ..المكان الذاكراتي والوعاء الذي تتحرك فيه وتتفاعل معه فتستجيب له وتتأثر وتؤثر به ..مع اشتغال متواصل وثيمة الزمن عبر لغة تخاطب الوجدان وفق معيار حداثي له التزاماته الموضوعية مع تركيز على الحسيات لابراز جمالياته المنبثقة من استنطاق كينونة اللفظ الرامز وتفعيل الاثر الذهني المتماهي واللغة الخالقة لنص يتوخى الايجاز وعمق المعنى وكثافة الايحاء..اما طاقة المكان التعبيرية فهي عند القاصة طاقة متفجرة انعكست على المشاهد والرموز التي هي من صميم تداعيات الخيال فالمشاهد عندها تتعامل والصفات الحسية بينما الرموز تبقى اشارات ودلالات ضمنية وهي تتعامل مع الفكرة بتجرد..
وبذلك قــدمت القاصة تــجربة تنضوي على عنصرين متكاملين متداخلين هما: الحكاية والخطاب.. الحكاية المتن الموضوعاتي بمكوناته المختلفة: الافعال و الوقائع الشخصيات و الفضاء الزمكاني. وهي تحــمل بين ثناياها اكثرمـن حــكاية بالتقاط لحظاتها اليومية الهاربة بتفاصيلها الباعثة على القلق..والتي تحــمل محمــولاتــها وبنائها المحــكم..فــتترك اثرها في الذاكرة بحكم حضور اشتغالاتها وتعدد مستوياتها السردية داخل النص منها: المستوى الموضوعي(الواقعي) والمستوى التخييلي(الذاتي) الحلمي الذي يجمع ما بين الوظيفة السايكولوجية والفكرية عبر لغة تجترح صورا سيسيولوجية واقعية بوعي الكتابة وانثيالاتها..