يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 24
حوارات مع جرجيس فتح الله*
س: لكن أرى لا بد من مقاطعتكم هنا . كما تعلمون أقيم قبل اشهر في القاهرة مهرجان (كونفراس) كبير إحياء لذكرى مرور الثلاثين على وفاته .
لا ادري اكان كبيرا او صغيرا. الا اني تساءلت في حينه عما كان يحدو بالقائمين اختيار السنة الثلاثين لهذه المناسبة وقد سميت كما تقول وفيما قرأت عنها في الصحف المحلية (بالكونفراس) فزاد ذلك من عجبي , وكلمة او تعبير الكونفراس كما تعلم تدل على (مؤتمر) او هكذا تترجم عادة . والغرض كما ذكر هو احياء لذكرى الرجل بعد مرور ثلاثين عاما على وفاته , والتقليد العالمي المتبع في امثال هذه المناسبات ان يكون احياء الذكرى اما في اليوم الاربعين او سنويا او كل خمس وعشرين سنه او كل خمسين . فما الذي حمل اللجنة التي سميت بالتضامن , على اختيار هذا الوقت الشاذ ؟ ايكون لهذا علاقة بالانتخابات النيابية التي كانت على الابواب ؟ لم اقرأ شيئا عن الغرض الذي توخته تلك اللجنة من عقد هذا الكونفراس . ولذلك لا استطيع التأكيد بأن الهدف كان مجرد دعاية انتخابية . الا ان ما ايد لي صواب رأيي في مزاج الحكومة المصرية والشعب المصري هو ضعف التمثيل الرسمي في هذا (الكونفراس) فقد قرأت ان رئيس الدولة بعث للمؤتمر فحسب مستشارا ينوب عنه . والمستشار كما تعلم يأتي دون الوزير , اي وزير في سلم البروتوكول والتمثيل الرسمي . وان صح رأيي ايضا في ان هذا (الكونفراس)كان لاغراض الداعية للانتخابات , فأن تلك الفئات او الحزب الذي اتخذ من اسم عبد الناصر , عنوانا له , لم يحقق فوزا.
س : ما الذي تنصح به في هذه الحالة ؟ وارى أنكم تكادون تفرغون من إجاباتكم ؟
لحادث معين اليت على نفسي منذ اربعين عاما بأن لا اقدم على نصيحة لاحد وانا اعتاض عنها عادة بسرد الوقائع وبسط ارائي دون محاولة التدخل بينها بالترويج لها وبين قارئيها . وما ألاحظه في هذا السبيل هو مشكلة الاراء المستمرة او الفكر المتسلطة لبعضهم , تأبى مفارقتهم , او بالاحرى يرفضون مفارقتها . رغم ما يعرض لهم من دلائل على فسادها وعدم مواءمتها . وما من شك في ان عقلاء مجتمعنا وما اكثرهم وهم يقومون اليوم بأعادة بناء البيت الذي تسلموه انقاضا وحطاما ان يعملوا على اقامة جدرانية سليمة قبل ان يفكروا في اي سورة يختارون ليعلقوا عليها .
عزيز شريف
س:الحديث سيكون الان عن الراحل الأستاذ عزيز شريف ذكرتم فيما سبق من حلقات عن كيفية لقائكم وخوضكم معا المعترك السياسي لفترة معينة وتأسيسكم حزب الشعب في العام 1946.وعن العلاقة الوثيقة التي ضلت قائمة بينكم برغم استقالتكم من الحزب هل لكم ان تحدثونا عن هذا , لا سيما عن مجهوداته ومساعيه وأياديه وآرائه حول القضية الكردية , كيف تلزمونها ؟
ارجو ان يكون واضحا اني لن احاول تقديم سيرة للاستاذ عزيز ولا شيء يشبه السيرة وقصارى هو الحديث عن حصتي منه فقط ولن استعير شيئا مما سمعته عنه من الاخرين . قلت فيما سبق ان الذي قدمني اليه هو صديقي شقيقه عبد الرحيم المحامي زميل دراستي وكانت هناك اجتماعات تحضيرية قبل تقديم طلب الاجازة تجرى في المنازل الخاصة وقد حضرت بعضها ايام ما كانت تحملني اشغالي او الصدف لو فترة دورة ضباط الاحتياط الى العاصمة ومن الرفاق الذين تعرفت بهم زملاء من المحاميين الجدد وبعض من سبق من دورات . كالاستاذ عبد الرزاق زبير وعبد الامير ابو تراب ومن الاوائل يوسف جواد المعمار وابراهيم الدركزلي . ومن الذين لحقوا بنا فيما بعد وكانوا في السنة الاخيرة من كلية الحقوق كمال عمر نظمي وعامر عبد الله . وعبد الملك عبد اللطيف نوري . ولم يكن الحزب يعدم اعضاء الهيئات التدريسية العليا وقد عرفت منهم الاستاذ عبد الجبار وهبي (ابو سعيد ) وحسين عبد العال . وعباس وهو تركماني من بلدة تلعفر . وقد اتاح لي اعتقاله في الموصل الفرصة لارى الجانب القانوني من الاستاذ العزيز . فقد انظم الي في الدفاع عنه وجاء الموصل , ووفق حسن علاقته مع موظفي اللواء الكبار والقضاة على الغاء التهمة وهي في طور التحقيق الابتدائي وأدهشتني براعته وطريقته في العرض والاقناع . كان محاميا لامعا في البصرة حيث مارس المحاماة ردحا من الزمن وقبل تسعة اعوام كان نائبا عن البصرة ايام حكومة حكمت سليمان محسوبا على جمعية الاصلاح الشعبي , سلف عصبة او جماعة الاهالي . ومن اقطابها الخمسة او الستة كامل الجادرجي , وعبد الفتاح ابراهيم , وعلي حيدر سليمان , وعبد القادر اسماعيل , وحسين جميل .
لم ادر سبب خروج (عزيز ) عن جماعة الاهالي ولم اجد مناسبة للسؤال منه . لذلك تبقى الاسباب التي ذكرها الجادرجي وحدها قائمة وقد نوهت بها في حلقة سالفة . ولم اجد ما يناقضها . عندما قرر الاستاذ عزيز ولوج باب النشاط الحزبي استقال من منصبه القضائي وكان حان جزاء بغداد الاول , ولم يبلغ سن التقاعد وباع منزله الكبير وبنى له اخر صغير للانتفاع بالفرق اذ لم يمارس مهنة المحاماة تكسبا طوال رئاسته الحزب .
وازدادت رابطتنا قوة ورسوخا من خلال الزيارات التي قام بها للموصل ايام النشاط الحزبي . وانزلته ضيفا في دارنا المتواضعة المشيدة على الطراز التقليدي وليس فيها من وسائل الراحة العصرية غير النور الكهربائي والماء الجاري . ولم تكن هناك غرفة للضيوف ففرش له في غرفة الجلوس . وبدا الامر طبيعيا جدا اذ ما مرت دقائق على تعرفه بنساء البيت حتى ازال ببساطة طبيعية فيه كل وحشة وانحنى ليقبل يد الوالدة الذاهلة . لم اسرع لاحطم كل التحفظ بواحدة من طرائفه وبسرعة خاطر فيه ما زلت اذكرها فأضحك وهي مقدمات : نحن العانيون شركاء لكم انتم الموصلين فيما يصيبنا من سخرية البغداديين بإلصاق تهمة البخل والرقاعة وتأليف الحكايات وهم يعمدون الى ذلك حسدا وغيرة لاننا نتفوق عليهم بالذكاء والسعي ثم جلس وبدأ يقص حكاياه ذلك العاني الذي زار بغداد لاول مرة وانفجر الجميع ضاحكا وهكذا بدقائق معدودة اصبح صديقا للاسرة بل واحدا من افرادها في المرة الثانية عليه , وحجزنا له غرفة في احد الفنادق فأبى الا ان يقضي ليلته في مقر الحزب , مدعيا ان ذلك تبذير وتبديد لاموال الحزب لا داعي له وقال لا بد وان لواحد من الاعضاء لحافا ومطرحا احتياطيا يمكن الاستغناء عنه لليلة واحدة .
جئنا له بما طلب وفرشنا له في ارضية المقر وأبى ان يقوم احد على خدمته وكان الوقت صيفا وبادر باخراج بجامته من حقيبة الأوراق الضخمة وارتداها وجلس مقرفصا كأي فلاح وتحلقناه ونحن جلوس على الكراسي .
من هذه والكثير من امثالها زايلني كل شك في انه كان يتكلف البساطة ويتعمد الظهور بمظهر المتقشف , استجلابا لشعبية لم تكن فيه , وقد حدثني مرة
عن اضطراره الى التزيي بثياب احد فلاحي ريف الجنوب والغياب عن اعين السلطة فترة من الزمن والعيش بينهم ولم يشتبهوا به قط وقد اعانته بشرته النحاسية وبساطة عاداته وقال انه عاد اليهم بعد فترة وهو بزيه الغربي المعتاد فتعذرت عليهم معرفته ورفضوا ان يقرنوه بذلك الفلاح الخشن الذي شاطرهم العيش والعمل في الحقل .
وبدا لي جيدا الالمام بالانكليزية . وانه لم يكتف بما اصاب منها على مقاعد الدراسة وهو قليل . بل دأب في اطلابها وامكنه التحدث بها بدرجة مرضية . رفع مرة كتاب “تراث الاسلام ” من فوق مكتبي وهو بلغة الاصل . مشيرا لي بصورة خاصة الى فصل “القانون والمجتمع” قائلا انه لم ير بحثا ابدع منه في موضوعه وقد ادهشني في حينه ذلك منه .
وبأمكاني القول ان عربيته كانت سليمة – لا اعتقد ان ضاهاها واحد من السياسيين اترابه- فضلا عن وضاحة تعبيره بها وكان يكتب معظم افتتاحيات الجريدة . ويدقق سلامة لغة ما يرد من مقالات وتعليقات حيثما تسنى له ذلك . وقد ارتائ ان توشح “الوطن” جريدة الحزب بالاية الكريمة وهي من سورة الاحزاب و الاية 23 (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه , ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)
وحسبها بعظهم تغطية وتمويها القصد من اثباتها ابعاد شبهة الماركسية عن الحزب بل عدها بعضهم نوع من المسومة ففي الحلة كان واحد من رجال الدين من (ال الماشطة ) عضوا في الحزب او منتصرا له . ويخيل لي ان في ذلك تجنيا عليه فوضعه اياها ان لم يكن بدافع التقى والتدين , فللبلاغة والمعنى الرفيع الذي تعبر عنه .
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012