محنتي مع الصناديق

للمرة الرابعة أقف حائراً وعاجزاً أمام صناديق الاقتراع وهذا الطفح الهائل من الكيانات والجماعات والأحزاب وقوائمها التي ضمت آلاف المرشحين لنيل عضوية مجلس النوّاب العراقي. في الدورات الثلاث السابقة منحت صوتي كما يقول مظفر النوّاب لـ “كلك لا يعبر ساقية..” لينتهي به المطاف الى أحضان حيتان عراق ما بعد “التغيير”، وهذه المرة أيضاً (انتخابات العام 2018) لم يختلف الأمر كثيراً، فالكتل الكبيرة تمثل الطبقة السياسية نفسها، والتي أدارت شؤون خيبة العراق لما بعد العام 2003 مع شيء من الإكسسوارات للتخفيف من أثر الرتابة والملل على ذلك “العرس الانتخابي” الباهت. عندما لا يجد شخص مثلي شكل الهم السياسي والنشاط الحزبي مغزى حياته داخل الوطن وفي المنافي طوال أكثر من أربعة عقود؛ من يستحق تمثيله في السلطة التي ترسم مصائر وخيارات الحاضر والمستقبل، فإن ذلك يعني الكثير، وينثر حزمة من التساؤلات وعلامات الاستغراب والريبة، على ما يجري في هذا الوطن المنكوب بعد مرور أكثر من خمسة عشر سنة على ما يفترض أنه مرحلة للعدالة الانتقالية صوب الحرية والتعددية والمؤسسات الديمقراطية الحديثة وعلى رأسها التنظيمات والأحزاب السياسية، والتي لم تظهر بشكل واضح وفاعل حتى هذه اللحظة. لقد وضعت جوانب من خبرتي الحزبية والسياسية في العديد من الأعمدة والمقالات واللقاءات، وفيها تصديت لهذا الكم الهائل من الأوهام والعناوين والتسميات الرائجة في المشهد السياسي للبلد، مفاهيم وعناوين وادعاءات ألحقت أبلغ الضرر بعقل ووعي المتلقي، ومنها على سبيل المثال لا الحصر مفردات (المدنية أو التكنوقراط) حيث أسهم ذلك في زيادة اللبس والعتمة والغموض، وساعد على انحدارنا الى مستويات من الضياع وتداخل المعسكرات والبرامج والرؤى بشكل غير مسبوق.
إن النتائج الأولية لانتخابات العام 2018 والتي أبت المفوضية “المستقلة” للانتخابات إلا أن تقدمها إلينا على شكل جرعات لاسباب لا يعرفها إلا الراسخون بعلم العد والفرز الإلكتروني، إذ لم تكتمل النتائج النهائية حتى بعد المواعيد المتتالية التي أعلنتها تباعاً، تشير الى أن المنتسبين الجدد للسلطة التشريعية والرقابية الأولى في البلد (مجلس النوّاب) لن يحيدوا كثيراً عن أسلافهم في الدورات الثلاث السابقة، حيث الكتل والغيلان والخطابات والأدوار نفسها، مع شيء من المنكهات والشعارات والمانشيتات والوعود التي ستلتحق بكثبان الأضابير التي احتوت مثيلاتها من قبل، وكما التشكيلة الحكومية السابقة، ستحتاج الكابينة الجديدة للغوث الإقليمي والدولي العابر للحدود الوطنية كي تأخذ شكلها النهائي المرضي لجميع القوى وبنحو خاص المتصدرة منها لنتائج الانتخابات الأخيرة. بالرغم من التغيرات الطفيفة التي حملتها الدورة الانتخابية الأخيرة، إلا أنها لم تشهد تحولات نوعية تتفق وتحديات ما يفترض أنها مرحلة للإعمار وإعادة البناء، حيث فرضت ظروف الحرب ضد عصابات داعش؛ شروطها وبصماتها على ما تمخضت عنه الصناديق، فالأمر حسم لصالح أمراء تلك المرحلة وصقورها، ولم يستثن من ذلك إقليم كوردستان، حيث استرد الحزبان التقليديان والمدججان بالمؤسسات الأمنية والعسكرية والاقتصادية صدارتهما فيها، طبعا هذا لا ينفي الانبثاقات الواعدة كحصول حراك الجيل الجديد على مقاعد مهمة في البرلمان المقبل، وفوز قائمة النصر في المحافظة العراقية الأكبر بعد العاصمة (بغداد) الموصل، لتشرع الأبواب مستقبلاً أمام المشروع الوطني العراقي العابر للهويات القاتلة وكياناتها التي أفرغت التجربة الديمقراطية من محتواها وغاياتها النهائية..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة