ابتسام يوسف الطاهر
كتب عنه البروفيسور جيمس بتراس استاذ علم الاجتماع في جامعة بينغهامتون بنيويورك ومؤلف كتاب (نفوذ اسرائيل في الولايات المتحدة) «كتاب من التائه، رائع ومحفز للفكر..يقدم استنتاجات بشأن اليهود والديانة اليهودية، قد يراها البعض صادمة لكنها ضرورية لفهم سياسة الهوية الاسرائيلية ودورها على المسرح العالمي».
يبدأ الكتاب The Wandering Who? (من التائه؟) بمقولة لاسرائيل شاحاك « جعلني النازيون اخشى أن أكون يهوديا، وجعلني الاسرائليون اشعر بالخزي لكوني يهوديا».
الكاتب والموسيقار البريطاني الشهير جلعاد عتسمون او آتزمون، يحكي في كتابه النقدي)من التائه؟( بجرأة وصراحة عن تاريخه العائلي، جده كان احد افراد عصابة الهاغانا التي ارتكبت مجازر دير ياسين وغيرها ضد الفلسطينيين، والحاقد على كل من يختلف معه أو يقف في طريق الحلم اليهودي، فكرهه لليسار اليهودي يفوق كرهه للنازية.
بالرغم من استخدامهم للفلسطينيين في بناء دورهم والعمل في مزارعهم كما يفعل المستعمرون في كل مكان. لكنه في بداية حياته لم يلتق بأي منهم. «كنا كشباب مقتنعين بأن اليهود حقا شعب الله المختار.. ولأننا علمانيون ربطنا نجاحنا في حرب الايام الستة بخصائصنا وقدراتنا.. من جانبهم كان الفلسطيينون يخدموننا صاغرين..لم يظهروا مقاومة جماعية..والهجمات يشنونها بصورة متفرقة، فتعزز شعورنا بأننا محقون وتواقين للانتقام..» ص 16
عشقه للموسيقى بدل رؤياه ونزعته القومية المتطرفة، فبذل قصارى جهده حين التحق بالجيش الاسرائيلي ليتجنب (نداء الواجب) كما يقول «لم يكن حينها لأني داعية للسلام ولا لأني كنت ابالي بشان الفلسطينيين، بل لأني ببساطة فضلت أن اكون وحدي مع آلة الساكسفون».ص 19
انتمى لفرقة موسيقية تابعة للجيش لكن كرههم للجيش كما يقول، جعلهم يعزفون بطريقة سيئة لكي لايستدعوهم لحفل عسكري.
لكنه كجندي ذهب الى لبنان لإحياء حفلات موسيقية. هناك زار سجن (انصار) سيء الصيت «هذه التجربة كان من شأنها ان تغير حياتي تماما» رأى اعداد المعتقلين الفلسطينيون الهائلة، رآهم غاضبين ومقاتلين شجعان من اجل الحرية. «توصلت لحقيقة لا تحتمل، كنت أسير في الجانب الاخر..كان النزلاء هم اليهود وأنا لم أكن سوى نازي». فيقرر الرحيل الى اوربا بعد تسليم زيه العسكري.»لم أر حينئد سوى إن اسرائيل بلد بغيض ولم أشا ان تكون لي علاقة به بعد اليوم» ص22
فالبلد الذي يقام على اسس عنصرية ويمنع الفلسطيني من العودة لدياره بينما يحث ويشجع كل يهودي لترك بلده الاصلي والهجرة لاسرائيل.. لا يستحق الانتماء اليه.
فخلال العشر سنوات القادمة عرف جلعاد عتسمون الحقيقة التي اقيم عليها بلده.. «لم يترك الفلسطينيون بلدهم طواعية كما قالوا لنا في المدرسة. بل تم تطهيرهم عرقيا بصورة وحشية على يد جدي وفصيلته».
لم يهتم عتسمون بالسياسة لكنه كان يتابع خطابات اليسار الاسرائيلي «انهم كانوا الى حد كبير ناديا اجتماعيا اكثر منه قوة ايديولوجية دافعها الوعي الاخلاقي». ويسلط الضوء على وهم اليسار الاسرائيلي ويعتبرهم انتهازيين، فمعظمهم ايدوا حكومتهم في الحرب على لبنان وقصفهم لغزة..يعملون لصالح الصهيونية. في فصل اخر يوضح سبب انتماء اليهود للحركات اليسارية في اوربا «الانتساب اليهودي لليسار، خطوة انتهازية سياسية بدلا من اشكال اليقظة الاخلاقية» ص 174
فاليهود اليساريين يناقضون فكرة اليسار الأساسية التي تدعو الى تخطي الاثنية والدين والعرق ..بينما «اليسار اليهودي وجد للحفاظ على هوية قبلية يهودية»
اليهودية ديانة وليست قومية لتعتبر اقلية..كتاب جلعاد يؤكد، الصهيونية والافكار التي دعت لها اختلقت ذلك لانشاء دولة اسرائيل والتي هي وسيلة ابتدعها الغرب، امريكا وبريطانيا للسيطرة على منطقة الشرق الاوسط.
فالمفكرون الصهاينة مثل وايزمان وجابوتنسكي، افكارهم سبقت النازية بالتطرف العنصري.. وبناءا على دعاويهم بقى اليهودي معزولا لم ينسجم مع المحيط الذي يعيش فيه.
وخلقوا فئة السايعانيم أي المساعدين، أي عملاء للصهيونية من اليهود خارج اسرائيل. فهؤلاء يخونون الأمة التي ينتمون اليها كمواطنين، بذريعة الاخلاص لفكرة الاخوة العشائرية أي للصهيونية.
ويبين الكاتب قسوتهم مع من يختلف معهم، فحرضوا يهود كندا على قتل اوسروفسكي الذي يعيش في كندا لأنه خان الصهيونية! ليثبتون انه لا يوجد كنديون يهود بل الولاء للصهيونية اولا من ثم للبلد الذي يعيشوه. وهذا ماتفعله عصابات المافيا، تقتل كل من يتخلى عنها ويفضح جرائمها.
«الصهيونية لاتتعلق باسرائيل..فتلك مجرد ملكية اقليمية….ومن الصعب تحديد اين تصنع القرارات الصهيونية.. ربما في الكينيست أو في امريكا أو في وول ستريت.
«الصهيونية كنظام من شأنه ان يؤثر في الشؤون العالمية..فالفلسطينيون هم ضحايا هوية سياسية عالمية وليس مجرد ضحايا الاحتلال الاسرائيلي. والعراقيون ضحايا المتسللين من اليهود الصهاينة في الادارتين البريطانية والامريكية..فالامريكيون والبريطانيون والى حد ما الغرب..جميعهم عرضة لإضطراب مالي، أي الى لكمة صهيونية» اذا لم يمتثلوا لأوامرها. فالصهيونية جعلت من امريكا بجلالة قدرها، شرطيا عالميا لحماية مصالحها وامنها!.
باسلوب ساخر ومدعوم بالوثائق يبين لنا جلعاد كيف ان الصهاينة اليهود المسيطرين على الاقتصاد، كيف خططوا وساهموا بتحييد الرأي العام الاميركي عن الحروب التي شنتها ضد العراق بحيلة اقتصادية مثل خطة غرينسبان الذي شجع الامريكان لشراء منازل حتى الفقراء منهم. لكسب تأييدهم لحكومة بوش الابن وغض الطرف عن حربهم..لكنهم بعد العجز عن تسديد القروض، أُسترجعت المنازل منهم وباتوا اكثر فقرا من قبل! «يذكرني غرينسبان بجراح متبلد الاحساس يخرج من عملية جراحية مطولة ليقول للعائلة التي تنتظر بقلق «لقد كانت العملية ناجحة لكن عزيزكم لسوء الحظ لم تكتب له النجاة» ص63
زعماء الصهاينة يدينون اليهودي الذي يندمج بالمجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه، فرنسيا او المانيا او غيره. والادعاء بأنهم كانوا محرومين من الوظائف والمناصب، خدعة ووهْم. فهم يسيطرون على تجارة البلد الذي ينتمون له..وقبول ديانتهم بالربا عزز مواقعهم الاقتصادية وبالتالي السياسية. فالصهيونية كحركة عالمية تتحكم بمقادير الدول لاسيما من الناحية الاقتصادية لكي تبقى اسرائيل..المتهاوية، كما يراها الكاتب. فالغرب خاصة امريكا تستقتل للدفاع عن اسرائيل ليس فقط لأنها شبيهة لها في تجميع شتات المواطنين من كل البلدان ..بل لأنها تشكل استراتيجية مهمة لفرض هيمنتها على العالم.
بالغ الصهاينة في موضوع معاداة السامية والهولكوست وحرق المعابد. فيؤكد الكاتب «اذا لم تكن هناك معابد محروقة قد يذهب الموساد الاسرائيلي ويحرقها بنفسه..من مبدأ الغاية تبرر الوسيلة» ويستشهد الكتاب بنعيم جلعادي صاحب كتاب (فضائح بن غوريون) كيف حاول الصهاينة اذاء يهود العراق لإجبارهم على الهجرة لإسرائيل، فزرعوا قنابل في مكتبة وكالة المعلومات الامريكية في الكنيس أي المعبد اليهودي لتصوير العراقيين على انهم معادين للامريكان واليهود..
ويسخر من عقلية تضخيم الخوف وخلق وهم التهديد والقتل. يذكر لنا نكتة يهودية قديمة «برقية يهودية: ابدؤوا بالقلق، التفاصيل تتبع» فزعماء اليهود استغلوا الخوف سياسيا منذ البداية.
«الخطاب السياسي اليهودي يأخذ دائما صيغة النفي..فاليهودي السياسي يقف دائما ضد شيء ما أو منفصل عن شيء ما..وهذا الأمر ابعد مايكون عن وصفة مثالية لحياة اخلاقية مسالمة» ص78
فاليهود الاسرائيليون يمارسون سياسة الاسقاط. «كلما زاد حجم الأذى الذي نسببه للآخرين أصبحنا أكثر تعودا على الشر والعدوان. وكلما تعاملنا بقسوة اكبر مع الآخر ازداد رعبنا من احتمالية أن يتصرف ضحايانا بالقدر ذاته من بشاعتنا» ص195
وعن الهولكوست يقول: «الديانة الأكثر شرا، فباسم معاناة اليهود، تصدر رخصة بالقتل والتدمير وشن هجوم نووي والابادة والتطهير العرقي» ص218. وكغيرها من الديانات تطرح نفسها كحقيقية ازلية تتخطى الخطاب النقدي.
وعن حنينه للوطن «لم احن لإسرائيل ولا تل ابيب..بل للقرى الفلسطينية..وكلما اردت زيارة الوطن اذهب لأجور رود الشارع المشهور بالمطاعم والمقاهي العربية» احد شوارع لندن المعروفة.
فالكاتب البريطاني جلعاد عتسمون، يعرف نفسه على أنه «فلسطيني يتكلم العبرية».