متابعة الصباح الجديد :
شهدت السنوات العشر الأخيرة اهتمامًا عالميًّا ملحوظًاً بتغيّر المناخ، أو كما اشتُهر سابقًا بـ «الاحتباس الحراري». وبالرغم من أن تلك الظاهرة كانت مثار اهتمام الكثيرين من النشطاء والعلماء في مجالات الدراسات البيئية وغيرها قبل ذلك بفترات بعيدة ، فإن الاهتمام الدولي ارتفع إلى أوجّه خلال الأعوام الثلاثة الماضية، وصارت التحذيرات تتعالى في الصحف ووسائل الإعلام، ويكفي مجرد البحث على أيّ محرّك بحث عن مصطلح (التغيّر المناخيّ) ويفاجئك عدد المدخلات التي سوف تظهر لك بمنزلة لافتات تحذير كبرى مخيفة من هذا الخطر الداهم، والكابوس الأسود الذي صنعه الإنسان في بيئته البِكر.
من جانب آخر ربما لم تجِد آراءؤه الانتشار الكافي في العالم العربيّ ارتفعت أصوات أخرى تدحض الفكرة من أساسها، وتنكر وجود «سببٍ بشريّ» وراء ظاهرة الاحتباس الحراري، بل الأكثر غرابة هو اتهام هذه الأصوات الجانب الذي يحذّر من خطر الاحتباس الحراريّ والداعي لاتخاذ إجراءات استباقيّة لمجابهة أخطاره بالترويج لـ «خُرافة» من أجل مصالح استراتيجية واقتصادية، وكما اعتمدت أجندات الحكومات الكبرى ووسائل الإعلام الرئيسة على بيانات وأبحاث علمية، اعتمد كذلك منكرو «التغيّر المناخيّ» على البيانات العلمية والدراسات البيئية التي تؤيّد وجهة نظرهم. وعلى رأس هذا المعسكر المُنكر للتغيّر المناخيّ جاء الشخص الذي بإمكانه إحداث أكبر تغيير في هذه القضيّة: رئيس الولايات المتحدة الأميركيّة دونالد ترامب، الذي غرّد منكرًا الأمر نحو117 مرة منذ عام 2011، حتى صار مثار سخرية العديد من الصحف والمنصات الإعلامية المختلفة.
الحقائق الثابتة
عند البحث عن مسببات ظاهرة الاحتباس الحراري ستأتي النتائج جميعها تقريبًا متطابقة ، فمثلًا عرفت ناشيونال جيوجرافيك الظاهرة بأنها ارتفاع درجة حرارة المناخ الأرضي بسبب زيادة ما يعرف بغازات الصوبة – تشبيهًا بعمل الصوبات الزراعية أو» greenhouse gases «التي تنتج من خلال عمليات التمثيل الضوئي والتنفس وتبخّر مياه البحار، وغير ذلك من العمليات الحيوية، خاصّة ارتفاع نسب غاز ثاني أكسيد الكربون.
تلك الزيادة تسببها بحسب التفاسير الشائعة الأنشطةُ البشريةُ مثل حرق الوقود الحيوي، وتلوث البيئة والزيادة السكانية ، ومن ثَم يقود هذا إلى تأثير سلبي على حرارة الكوكب، وقد يتسبب في ذوبان جليد القطبين، وهنا تبدأ السيناريوهات في التحول إلى احتمالات أكثر قتامة.
ربما لا تمثل تلك التعريفات إضافة إلى ما قد يعلمه الكثيرون بالفعل، فقد بدأت «الأمم المتحدة» اهتمامها الجاد بالظاهرة منذ 30 عامًا تقريبًا، عندما أسست لجنة الخبراء الدولية المعنية بتغير المناخ عام 1988. والتي كانت السبب في بدء الاهتمام الدولي والإعلامي بالأمر، ومنذ ذلك الوقت ظهرت آلاف الأبحاث العلمية في هذا الإطار، مما ثبّت المفاهيم عند الكثير من الناس بشأن التغير المناخي.
الأمر خدعة
عام 2007، عرضت القناة الرابعة البريطانية فيلما وثائقيًّا شديد الجدية بعنوان: «خدعة الاحتباس الحراري الكبرى» ظهر فيه ما يزيد على 10 علماء وخبراء في مجال البيئة والدراسات المناخية، جميعهم ينكرون « تأثير الإنسان» على تلك الظاهرة، وأن تغير المناخ أمر يحدث بالفعل ولكنه أمر طبيعي كجزء من دورة مناخية يمر بها هذا الكوكب على فترات زمنية مختلفة، وأن الترويج «المبالغ فيه» لتغير المناخ ما هو إلا جزء من أجندة سياسية تخدم مؤسسات ودولًا بعينها، ببساطة لأن الأمر تحول إلى «صناعة» و«اعمال » كبيرة قائمة على التمويلات من القطاعات الخاصة والحكومية، ووقودًا ممتازًا لحركات النشاط البيئي والسياسي بالتبعية.
وثائقي خدعة الاحتباس الحراري
الأكثر إثارة للجدل هو الحقائق العلمية التي بدت صلبة وعقلانية التي تناولوها خلال الوثائقي، منها تفاوت دفء كوكب الأرض وبرودته في فترات سابقة؛ مثل الفترة التي عرفت بـ Holocene maximum منذ نحوما يقرب من 8- 10 آلاف سنة، والتي نشرت جامعة أريزونا الأميريكية بحثًا حولها، يؤكد أنها كانت أكثر حرارة من الفترات الحالية التي نشهدها، ولم تتسبب في «كوارث بشرية» مسجلة، الأمر الذي أكد عليه البروفسيور «إيان كلارك» أستاذ علوم الأرض بجامعة أوتاوا في سياق الوثائقي.
الأسس العلمية كانت واهية
«نايجل لوسون» لورد مقاطعة «بلابي» هو أحد أوائل الساسة البريطانيين الملكيين، وأحد أعضاء البرلمان المشككين في فرضية التأثير البشري على ارتفاع درجة حرارة الأرض .قد ظهر خلال الوثائقي متحدثًا بأنه في عام 2005 طلب مجلس اللوردات في البرلمان الإنجليزي «دليلًا علميًّا» يفيد أن السبب الرئيسي وراء الاحتباس الحراري هو النشاط الإنساني، وكان على رأسهم اللورد «لوسون» الذي كان أول من طلب أموالًا من الحكومة لصالح أبحاث الاحتباس الحراري.
لورد مقاطعة «بلابي»
ولكنه أقرّ بأن ما جاءه في التقرير من بحث علمي كان ضعيف الأساس «بشكل مُزر» ولا يثبت إثباتًا دامغًا أن النشاط البشري هو المسبب لتلك الظاهرة، بل قال إن هناك الكثير من العلماء يخشون معارضة «موجة» الاحتباس الحراري ويرفضون الإقرار بضعف سندها العلمي.
ثاني أكسيد الكربون.. مفترى عليه؟
يقول البروفيسور باتريك مايكلز، أستاذ العلوم البيئية بجامعة فيرجينيا في سياق الوثائقي: «من يدّعي أن ثاني أكسيد الكربون هو السبب وراء الاحتباس الحراري، ببساطة لم ينظر جيدًا إلى الأرقام الأساسية» . ويتناول مايكلز هذا شارحًا أنه في مطلع القرن العشرين كان القطاع الصناعي عليلًا ومقتصرًا على دول بعينها، ومتأثرًا سلبًا بالكساد الاقتصادي، ولكن عقب الحرب العالمية الثانية ازدهر القطاع الصناعي، وزادت أنشطة التصنيع بقوة.
وهذا ما لا يتوافق مع جدول قياسات درجات الحرارة على الأرض منذ عام 1940، والتي ارتفعت ارتفاعًا ملحوظًا في أثناء فترة الكساد الاقتصادي ، في حين انخفضت انخفاضًا ملحوظًا عن الفترة التي تسبقها وحتى العام 1975، أي لما يزيد على ثلاثة عقود ولم ترتفع متأثرة بالنشاط الصناعي كما هو الزعم العالمي، وهو ما أيّده أيضًا البروفيسور «سيونيشي أكاسوفو» مدير مركز الأبحاث الطبية التابع لجامعة «ألاسكا»، وعلماء بيئة آخرون.
الطبقة الأعلى أبرد مما ينبغي
يذكر في الوثائقي البروفيسور «ريتشارد ليندزن» أستاذ إدارة علم قياس الأرصاد بمعهد «ماساتشوستس للتكنولوجيا» أن غازات الصوبة تعمل طبيعيًّا طبقة عازلة تمنع تبدّد أشعة الشمس وتحمينا من التجمد، وبفرض أن النشاط الإنساني هو الذي يرفع نسبها مسببًا حرارة زائدة، فإنه من الطبيعي أن نجد أعلى درجات للحرارة مسجلة في الطبقة العليا، تلك المسماة بـ«التروبوسفير» التي تبعد عدة كيلومترات عن سطح الأرض، ولكن القياسات التي قام بها أحد علماء ناسا المرموقين في مجال الطقس والمناخ «جون كريستن» الذي كان له إسهامات كبرى في قياس درجات حرارة تلك الطبقة العليا تؤكد غير ذلك.
أحد بالونات قياس الطقس
«كريستن» أكد أنّ البيانات التي جمعت من خلال كُل من الأقمار الصناعية وبالونات الطقس، أظهرت أن طبقة «التروبوسفير» ليست مرتفعة بتلك الدرجة التي هي عليها قرب السطح، وهو ما يتنافى مع النظرية السائدة عن الاحتباس الحراري، فكيف يكون السطح أعلى حرارة من الطبقة التي «تحبس الحرارة»؟ بالرغم من اعتراض الكثير من مؤيدي الظاهرة على تلك القياسات، والقول إن تلك «أخطاء قياس» تحدث بكثرة في هذا المجال.
الصراع السياسي
بالنظر إلى أطراف الصراع الدائر، نجد أن التعامل مع هذه القضيّة الشائكة قد تأثّرت بالمنافسة السياسيّة بين الديمقراطيّين والجمهوريين في الولايات المتحدة وبريطانيا، بدءًا بتعريف الإنترنت للورد لوسون بأنه «محافظ يميني»، واهتمام الرئيس الديمقراطي السابق «باراك أوباما» بمسألة تغير المناخ بنحو إعلامي موسع، وانتهاء بالنظر إلى الرئيس الجمهوري اليميني «دونالد ترامب»، وبتفقد المواقع التي أنشأها الطرفان لمحاربة أفكار بعضهم بعضًا مثل موقع global warming hoax المخصص لتأييد فكرة «الخدعة» واتهام الديمقراطيين باستغلال الأمر سياسيًّا واقتصاديًّا، إلى موقع skeptical science المخصص للتشكيك في المشككين أنفسهم.
في حين لا تنفك الصحف والمنصات الإعلامية الكبرى تسخر من كل من يتبنى تلك الفكرة، مثل التايمز في هجومها على نكران ترامب لتغير المناخ.
وواشنطن بوست التي سخرت من نكران الرئيس الأميركي لتغير المناخ، واتهمت من يروج لخدعة تغير المناخ بـ «أصحاب العلم الزائف»، في حين لم ينكر كل المعارضين للفكرة تقريبًا حدوث الارتفاع في درجة حرارة الكوكب ، لكن الجدال الدائر يبدو أنه يشتدّ فقط عندما يذكر أحدٌ الطرفين فكرة «تسبب الإنسان» فيه.
وقد أشارت وكالة ناسا لأبحاث الفضاء إلى تقرير أميركيّ اشترك فيه 1300 عالم وخبير مستقلّ من شتى أنحاء العالم، وقد اتّفقوا على أنّ احتماليّة وجود دور للإنسان في التسبب في الاحتباس الحراريّ تصل إلى 95%.
في حين يبدو للبعض، وخصوصًا مراقبي السياسات الدولية، أن الأمر هو صراع سياسي بحت. نجد أن الظاهرة المقلقة تحدث بالفعل، وأنّ هنالك إجماعًا في المجتمع العلميّ على أنّ الإنسان أحد أسبابها. وربما بمزيد من مراعاة أنشطتنا السلبية تفلح جهود المجتمع الدولي في الحد من الأثر السلبي الذي يتبدى لنا جليًّا في الأفق من دون الحاجة إلى تأكيد المسببات.