عاقبة التنافس بين اللصوص

لحظة سقوط الصنم في ساحة الفردوس وما أفرزته من مشاهد ومشاعر واندفاعات، بمقدورها أن تشرح لنا الكثير مما حدث لاحقاً من تطورات واصطفافات. ففي حين انشغل العم أبو تحسين بصفع صورة الطاغية معلناً للعالم أجمع مشاعر الغالبية الساحقة من العراقيين، نقلت لنا وسائل الإعلام العالمية مشاهد واهتمامات أخرى لجماعات انقضت على أسلاب ما تبقى من الغنيمة الأزلية (الملكية العامة ومؤسسات الدولة) وقبل ذلك كانت قطعان الفلول والمقربين من الطاغية قد نهبوا ما تبقى من عملة نقدية وسبائك ذهبية ومجوهرات، وهكذا الى بقية مستويات اللصوص وقراصنة المنعطفات التاريخية، حيث كانت هذه المخلوقات والجماعات هي الأرشق والأقدر على تلقف زمام المبادرة للحظة ما بعد “التغيير” وهذا ما كشفت عنه التطورات اللاحقة. كرنفال اللصوصية هذا اشترك فيه طيف واسع من فلول النظام المباد وغير القليل من معارضيه السابقين، حيث انجلى الموقف بعد زوال عجاج تلك الغزوات عن الحقيقة التي نواجهها اليوم ونحن على أبواب الدورة الرابعة من الانتخابات؛ حيث التنافس على أشده بين حيتان اللصوص لتقاسم الغنيمة الأزلية، وكما حصل لحظة زوال النظام المباد، عندما لم تظهر أية قوة تدرك معنى هذا التحول وتنبري للدفاع عنه، وهذا ما أدركه أبو تحسين عندما سارع للعيش في إقليم كوردستان هرباً من عصابات ومافيات العصر التي جاءت بعد الذي أطلق عليه الصديق الروائي نصيف فلك بـ (العصر الزيتوني) تاركاً الساحة لجيل جديد من اللصوص والقتلة.
ما نشاهده اليوم من عجز وفشل وانحطاط في الممارسات والسلوك، وبالرغم من مرور أكثر من خمسة عشر عاماً على “التغيير” يدعونا بقوة لمواجهة الحقائق التي نضح عنها مشهد زوال “جمهورية الخوف” وبنحو خاص عدم وجود قوى فعلية على أرض الواقع تضع على رأس أولوياتها الدفاع عن الديمقراطية ووحدة الوطن وحقوق وحريات شعوبه التي أهدرت طويلاً. وخير دليل على ذلك خارطة التنافس للماراثون الانتخابي الذي انطلق قبل أيام، حيث الكتل والجماعات نفسها وبحلل جديدة أهدتها إياها الثروات والامتيازات والمواقع التي حصدتها في الجولات الانتخابية السابقة، وحصنتها التشريعات والمفوضيات “المستقلة” التي تم تحاصصها بالكامل لتؤمن المسار المثالي للنتائج المرجوة من مثل هذه المواسم “الديمقراطية”. ولأن الإناء بما فيه ينضح، فأن مثل هذه المعطيات لا تعكس حال الكتل والجماعات المتنافسة وحسب بل هي تستند الى واقع راسخ من انحطاط القوى والقيم والوعي لدى شرائح واسعة من المجتمع، أورثنا إياها النظام المباد وعمله المبرمج لمسخ سكان هذا الوطن المنكوب، واستثمرت في إرثه تلك القوى والجماعات التي تلقفت مقاليد السلطة والقرار عبر الآليات الديمقراطية (الصناديق). ما يجري على مسرح أحداث عراق ما بعد سقوط النظام الدكتاتوري، يعيدنا الى ما شخصه مبكراً عالمنا الجليل الدكتور علي الوردي، حول مرض الشيزوفرينيا (الانفصام) الذي لا يكف عن مرافقة الشخصية العراقية، والذي بمقدورنا تعقب تجلياته الصارخة في استعمالنا لأفضل تقنية صنعها البشر لفك الاشتباكات (الصناديق) حيث أعيد تحويرها وبما يتناسب وارثنا الوطني في مجال اللصوصية وخدمة الرسائل الخالدة، وإلا من أين جاء طوفان الفساد الذي وضعنا ضمن قائمة الدول الأكثر فساداً وفقاً لتقارير المنظمات الدولية المعنية بهذا الأمر؟ وهي معطيات تتنافر واعتمادنا للنظام الديمقراطي وفقاً لدستور العراق “الجديد”..! وفي نفس الوقت تشير الى أن ما اكتشفه الدكتور علي الوردي قد ولج الى أطواراً مبتكرة بعد حقبة “الفتح الديمقراطي المبين”..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة