أزمة الثقة في الغرب

كارل بيلدت

في عصر تحدد معالمه نوبات غضب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ورجعية الرئيس الروسي فلاديمير بوتن التحريفية، وطموح الرئيس الصيني شي جين بينج الجامح، يعاني النظام الدولي على نحو متزايد من الفوضى، والاختلال الوظيفي، والمخاطر الداهمة. كيف وصلنا إلى هذه الحال؟ وكيف يمكننا تجاوزها؟
حتى وقت قريب، كانت الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية تتسم بالأممية الليبرالية الخيرة. بدأ نظام ما بعد الحرب يتبلور في عام 1941، عندما قام الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل بصياغة ميثاق الأطلسي على متن سفينة راسية في خليج بلاسينتيا في كندا. وعلى الرغم من انتصارات هتلر في ساحات المعارك في أوروبا في ذلك الحين، كان تشرشل وروزفلت عازمين ليس فقط على إحباط الهجمة النازية، بل وأيضا إرساء الأساس لمستقبل من السلام والديمقراطية.
وربما كان نجاحهما أكبر مما تخيلا. فبعد ميثاق الأطلسي أُنشِئت منظمة الأمم المتحدة، ثم مؤسسات بريتون وودز، ونظام التجارة العالمي، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وغير ذلك الكثير. وخلال عقود ما بعد الحرب التي اتسمت بإنهاء الاستعمار، نشأت دول جديدة عديدة، واتحد الأعداء سابقا تحت لواء تحالفات جديدة وبنية شاملة للتكامل.
وبَشَّر «انفتاح» الصين العظيم وانهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1991 بقدوم ربع قرن من التقدم العالمي اللافت للنظر حقا. وإذا حكمنا من خلال المؤشرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المعتادة، فربما يكون بوسعنا أن نعده أفضل ربع قرن في تاريخ البشرية. فلم تندلع أي حروب كبرى بين القوى العظمى، كما توسعت التجارة العالمية ودفعت النمو الاقتصادي، وانخفضت معدلات الفقر بأكثر من النصف، وعادت فوائد التقدم السريع في العلوم والتكنولوجيا على كل ركن من أركان العالَم تقريبا.
ولكن في السنوات الأخيرة، دخل العالَم مرحلة جديدة. فقد انحسرت سياسات المثالية والأمل لتحل محلها سياسات الهوية والخوف. وضرب هذا الاتجاه بجذوره في بلد غربي تلو الآخر، لكن تجلياته كانت أشد وضوحا في الدولتين اللتين جعلتا الفترة السابقة من التقدم المعجزة في حكم الممكن في المقام الأول.
واليوم، تحولت المداولات السياسية المرتبكة المشوشة في المملكة المتحدة إلى مشهد مأساوي. فمنذ الاستفتاء على الخروج البريطاني في يونيو/حزيران 2016، بحثت بريطانيا عبثا عن مفهوم متوهم للسيادة ربما يمنع الخسارة الهائلة للقوة والنفوذ على الساحة الدولية والتي تنتظرها بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. والآن أفسح ذلك النوع من الحنكة السياسية العالمية التي قدمتها المملكة المتحدة للعالَم ذات يوم المجال لمشاحنات تتسم بضيق الأفق الشديد.
لكن السياسة المرتبكة في البيت الأبيض في عهد ترامب تنطوي على عواقب أشد وطأة. على مدار عقود من الزمن، كان البيت الأبيض ينبوعا للزعامة العالمية؛ واليوم تحول إلى مصدر للخطابة العدائية المولعة بالقتال والتي لا تبالي حتى بتملق فكرة النظام العالمي. والواقع أن استراتيجية الأمن القومي الرسمية التي تنتهجها إدارة ترامب تصور الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة للحفاظ على النظام العالمي على أنها جهود هَدَّامة ومخربة للغرض منها. ويتسم المستقبل الذي تتصوره هذه الاستراتيجية بالصراعات بين الدول ذات السيادة.
وسوف يشكل إدخال التعديلات على الموقف الاستراتيجي الذي تتبناه أميركا استجابة معقولة للعدوان الروسي وكسر القواعد، وخاصة في أوروبا الشرقية، ومحاولات بسط النفوذ المتنامية من قِبَل الصين على الساحة العالمية. لكن غريزة الرئيس الأميركي الأولى لابد أن تكون الدفاع عن النظام الدولي ضد التهديدات المتصاعدة، مع إجراء التعديلات الواجبة بما يعبر عن الحقائق الجديدة. وسوف يتطلب التعامل مع تغير المناخ، والهجرة المتزايدة، وثورة تكنولوجيات المعلومات والاتصالات إبرام اتفاقيات دولية شاملة جديدة لحماية مصالح الدول ذات السيادة.
ولكن للأسف الشديد، يبدو أن التصريحات الصادرة عن البيت الأبيض بقيادة ترامب موجهة لتقويض أي حس بالنظام، على أمل أن تخرج الولايات المتحدة منتصرة في صراع أشبه بصراعات توماس هوبز على الهيمنة العالمية في المستقبل. وبهذا المنطق، لا ينبغي للتجارة الدولية أن تخضع للتنظيم بموجب قواعد ومؤسسات، بل من خلال تدابير حماية أحادية الجانب وممارسات قهرية. وبالمنطق نفسه، سوف يتسم التعامل مع مؤسسات مثل الاتحاد الأوروبي ــ التي تسعى إلى ضمان النظام والاستقرار من خلال التكامل ــ بعدم الاكتراث، إن لم يكن بازدراء.
من منظور الصين، قد تكون هذه الرؤية القائمة على الصراع من قِبَل إدارة ترامب جذابة، شريطة أن يستمر اقتصادها في النمو، وأن تتجنب الاضطرابات الداخلية الاجتماعية أو السياسية الخطيرة. ففي ظل تضاؤل القواعد العالمية، تنحسر العقبات التي تواجه الصين في مساعيها الرامية إلى بسط نفوذها المتنامي في الخارج.
الخاسر في هذا السيناريو بلا أدنى شك هو الغرب الأكبر، وهذا لا يشمل أوروبا فحسب، بل وأيضا دولا مثل الهند، التي ستظل ملتزمة بالديمقراطية الليبرالية، والانفتاح الاقتصادي، والقيم التي استند إليها ربع القرن المعجزة بعد الحرب الباردة.
وحتى في غياب أسوأ السيناريوهات، سوف يواجه الغرب ذلك العالَم الجديد الذي يضم طامحين جددا يطرحون مطالب جديدة حول المستقبل. وعلى هذا فمن قبيل الخطأ الفادح أن تهجر القوى الغربية الأفكار والمؤسسات التي نجحت في تحقيق الرخاء والاستقرار في العقود السابقة. وفي المقام الأول من الأهمية، لا ينبغي للدولتين اللتين تحملتا القدر الأعظم من المسؤولية عن خلق النظام الدولي الذي ساد في مرحلة ما بعد الحرب أن تتخليا عنه الآن.

*كارل بيلدت رئيس الوزراء ووزير الخارجية السويدي السابق والرئيس الحالي لمجلس أوروبا المشارك لشؤون العلاقات الخارجية

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة