كذاب ومشارط

لقد استعرت العنوان من المثل الشعبي المعروف (شحاذ ومشارط)، حيث المغزى نفسه، عندما يتم نقل وترويج الأكاذيب بكل صلافة وتبجح، ومن دون ادنى ذرة من خجل أو حياء. هذا النوع من الكذابين لم يكتفوا بمواقعهم التقليدية بين القطاعات الأكثر تخلفاً من المجتمع، من الذين أدمنوا على اجترار علف الأكاذيب وأنصاف الحقائق التي تقدم لهم مجتزأة عن سياقاتها وأحوالها، حيث شرعت لهم حقبة الفتح الديمقراطي المبين، كل الأبواب للتسلل الى شتى المنابر والمنصات وبما فيها مواقع التواصل الاجتماعي الحديثة، حيث سنحت لهم الفرص لتطوير أدواتهم ووسائلهم لإعادة تدوير بضائعهم الملوثة، بعد أن اطمأنوا جيداً لعدم وجود القوانين والقوى الرادعة لنشاطاتهم التدميرية هذه. لن نجافي الموضوعية عندما نعد (الكذب) إحدى الركائز الأساسية التي يستند عليها واقعنا الراهن المتخم بالغرائبية واللاعقلانية، وعجزنا العضال في التحرر من غيبوبتنا المستمرة منذ أكثر من ألف عام. في مجتمع يردد أفراده بكل فخر واعتزاز بأن (الكذب ملح الرجال) لا نستغرب كل هذا الطلب المتزايد على كل أنواع وأحجام الأكاذيب الصغيرة منها والكبيرة، وقد أشارت إحدى الدراسات الحديثة الى أن الأخبار الكاذبة أكثر رواجاً واستقبالاً من الأخبار الصادقة بنسبة 70 بالمئة، لأسباب أشارت لها تلك الدراسة بشكل مفصل، هذه المعطيات تؤكد حجم الخطر الذي يشكله هذا الوباء الذي استوطن مضاربنا المنحوسة منذ زمن بعيد.
إن مهمة تفكيك هذا الإرث الهائل من كثبان التزييف والمسخ والأكاذيب؛ ليست بالمهمة اليسيرة بكل تأكيد، لا سيما في مجتمع رضع الخوف والذل والامتهان جيلاً بعد جيل، حيث كشفت عن ذلك حالته بعد أن استأصل لهم المشرط الخارجي سلطة العبودية المطلقة لذلك الذي انتشل مذعوراً من جحره الأخير، حيث أعاد بسرعة يحسد عليها، عدد لا يحصى من أشباه السلطات التي تعد ملهم الحملات الإيمانية قدوتها ومثالها الأعلى. بالنسبة لي شخصياً ووفقاً لما أشاهده وألمسه يومياً من مشاهد وحالات ووقائع؛ لا استبعد تسلل الكذب ومخلفاته الى الصبغة الوراثية (الجينات) للكثير من سكان هذه المضارب، حيث نرى غير القليل منهم يضطرب ويختل توازنه عندما ينقطع قليلاً عن مضغ واجترار العلف المبجل، لا سيما وأن قوافل الديماغوجيين الجدد قد طوروا عملهم ومنتجاتهم المفبركة الى مستويات لم تكن تطرأ على مخيلات أسلافنا العظام، عندما يتم طلاء أشد أنواع السموم القيمية والمعرفية بأفضل أنواع العسل والمنكهات الطيبة، حيث تقام الولائم على شرف حشود مجيشة ومعبئة بكل ماهو بعيد عن العقلانية والحكمة والإنصاف.
مع مثل هذه المناخات والشروط التي تبيح لهذا الطاعون الخرافي من بث وترويج وتزريق أكاذيبه المبجلة بكل ثقة وحماس، تتحول كل فزعات “التغيير والإصلاح” الى مجرد دقلات هوائية في أفضل الأحوال. عندما تعبأ أدمغة الأجيال ومنذ الطفولة بقصص وسرديات لا تتوافق مع أبسط متطلبات ومعايير ومنطق الأشياء المحيطة بهم في عالم اليوم، علينا أن لا نستغرب مما حصل ويحصل معنا من كوارث وبلاوي، وما يجري عندنا أبشع بما لا يقاس وما قال عنه جان جاك روسو ذات عصر عندما عدّ (مقاعد الدرس بمنزلة جحيم للأطفال، ومصنع لتخريج مخلوقات ذليلة خانعة، تبحث عن السلامة لا عن الحقيقة). وعندنا فقد عيال الله بهمة الكذب المبجل كل أمل في الوصول لكليهما، فلا سلامة ولا حقيقة في نهاية هذا النفق الطويل من الخوف والخنوع والأكاذيب..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة