التطبيق الاميركي لاستراتيجية القوة الذكية في المنطقة العربية

د. مصطفى إبراهيم الشمري

تعد القوة الذكية من الأطروحات الحديثة في الفكر الإستراتيجي الاميركي الذي طالما يبحث عن التجديد الدائم في بطون الأفكار، لكي يخرج لنا بأطاريح فكرية تكون بصيغة نظريات أو إستراتيجيات تأخذ طريقها إلى المجال التطبيقي من قبل الإدارات الاميركية.
وقد أرتبط مفهوم القوة الذكية بمراجعة السياسة الخارجية الاميركية بعد الإخفاقات التي رافقت الحرب الاميركية في أفغانستان والعراق، والإنتقادات العالمية للقوة الصلبة الاميركية من جهة، وعدم قدرة القوة الناعمة الاميركية أن تأتي بنتائجها المطلوبة لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الاميركية.
وعمومًا سوف يتم تناول هذا الموضوع في ضوء المحاور الآتية:
أولاً- مفهوم القوة الذكية:
يُنسب مفهوم القوة الذكية إلى (جوزيف أس. ناي) الذي ظهر في عام 2003، وهو مفهوم تطوري وصفي يقصد بالإستراتيجية التي تجمع بنجاح بين القوة الصلبة والقوة الناعمة في سياقات مختلفة، وهي متاحة للفواعل من الدول وغير الدول، ويأتي مفهوم القوة الذكية في قلب عملية تحويل القوة، حيث أن بعض الدول لديها مصادر كثيرة للقوة ولكنها تفشل في تحويلها لمخرجات تصب في صالح الدولة، لذا فأن الخطوة الأولى لتحقيق القوة الذكية وتحويل القوة بفاعلية هو فهم كامل لمصادر القوة التي تمتلكها الدولة وكيفية الجمع بينها في سياقات مختلفة، كما أكد (جوزيف أس. ناي) على أهمية السياق الذي تستخدم فيه إستراتيجيات القوة الذكية، حيث ركز على ما أسماه (الذكاء السياقي) وأهميته لمفهوم القوة الذكية ويقصد به: إمتلاك المهارات التي تساعد صانع السياسة الخارجية على التخطيط للتكتيكات مع الأهداف لخلق إستراتيجية إندماجية تجمع بين القوة الصلبة والناعمة من دبلوماسية عامة، وبرامج تبادل طلابي، ومساعدات التنمية، والإنقاذ من الكوارث.
إن المزاوجة بين القوة الناعمة والقوة الصلبة هي ما وصل إليه الفكر الإستراتيجي الاميركي الذي أنتج مفهوم القوة الذكية، وهذا التزاوج المفاهيمي جاء نتيجة لتفاعلات فكرية مختلفة داخل الولايات المتحدة عن طريق العديد من مراكز البحوث والدراسات والمعاهد والجامعات التي ترفد صانع القرار بكل ما تنجزه من دراسات ومشاريع إستراتيجية جديدة، حيث تمثل الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات الاميركية الأذرع الفكرية والعلمية لصياغة السياسة الاميركية.
وبالفعل فقد وجد مفهوم القوة الذكية صدى واسعا لدى الساسة الاميركيين، حيث أستخدم الرئيس باراك أوباما هذا المفهوم في حملته الإنتخابية في عام 2008، ومن ثم تناولته وزيرة الخارجية الاميركية هيلاري كلينتون في عام 2009 كمفهوم حيوي لدعم السياسة الخارجية الاميركية. حيث قالت: «لعقود كانت أدوات السياسة الخارجية يتم تصنيفها ما بين القوة القاسية والمتمثلة في القوات العسكرية أو القوة الناعمة المتمثلة في العمل الدبلوماسي، والإقتصادي، والإنساني، والتأثير الثقافي. أنا كنت أريد تطبيق ما يعرف بالقوة الذكية، بالنسبة لي القوة الذكية تعني إختيار أفضل خليط من الأدوات الدبلوماسية، والإقتصادية، والعسكرية، والسياسية، والقانونية، والثقافية لكل موقف».
وفي السياق ذاته عرف مساعد وزيرة الخارجية الاميركية للشؤون السياسية والعسكرية (أندرو جي. شابيرو) القوة الذكية: «هي الإدماج الذكي وشبكة العمل الدبلوماسي، والدفاع، والتنمية، والأدوات الأخرى لما يسمى بالقوة الموجعة والناعمة».
ومن الجدير بالذكر أن الأسباب التي أدت إلى ظهور مفهوم القوة الذكية عديدة لعل أبرزها:
1- القدرة على تحقيق مردود في الشؤون الدولية عن طريق الأستقطاب أكثر مما يمكن تحقيقه عن طريق الإكراه.
2- حاجة الدول المتقدمة إلى جذب الدول النامية للعمل معها كشريك دولي لمواجهة التحديات العالمية المشتركة التي لا تستطيع أية دولة التصدي لها بمفردها مثل: التغيرات المناخية، وإنتشار الأمراض المستعصية، وتصاعد خطورة (الدول الفاشلة) على الأمن العالمي.
3- إدراك القوى الغربية صعوبة الإعتماد على الخيار العسكري لمواجهة القوى غير الرسمية المعتنقة لفكرة المقاومة والجهاد.
4- الدور الكبير الذي تسهم به ثورة المعلومات والنظام الإعلامي الجديد في نقل المنظومة القيمية الغربية إلى كل أرجاء العالم.
ولا بد من الإشارة إلى أن أولى وأهم متطلبات تحقيق القوة الذكية في السياسة الخارجية أن تتوفر لدى الدولة موارد القوة الصلبة من إمكانات عسكرية وإقتصادية فعالة بجانب موارد القوة الناعمة من سياسية وثقافية ودبلوماسية وغيرها، وعلى أن يكون لدى الدولة نوع من التوازن في مواردها، أي عدم التركيز على حيازة أي منهما على حساب الآخر، وإنما إستثمار موارد كلا القوتين (الصلبة والناعمة) في أطار إستراتيجية قومية لتحقيق أهداف السياسة الخارجية للدولة في سياقات مختلفة.
ثانياً- تطبيقات إستراتيجية القوة الذكية الاميركية في المنطقة العربية:
تمثل المنطقة العربية عمق إستراتيجي مهم للأمن القومي الاميركي، لذا عملت الولايات المتحدة دوماً على ربطها بالأمن العالمي، كما أن هذه المنطقة تمثل المركز الذي تريد أن تنطلق منه الولايات المتحدة لتنفيذ مشروعها في النظام العالمي الجديد، لاسيما وأن السياسة الخارجية الاميركية لا تحركها السياسة والإقتصاد والأمن فقط، بل هناك جوانب أخرى أبرزها دور الدين، لاسيما بعد تنامي دور اليمين الاميركي في السياسة الاميركية.
وعموما فأن أبرز ملامح تطبيق إستراتيجية القوة الذكية الاميركية في المنطقة العربية تتجلى في كيفية التعامل الاميركي مع ما يطلق عليها بـ(ثورات الربيع العربي).
وفي هذا الخصوص أسهمت الولايات المتحدة بدور كبير في تأجيج الشعوب العربية ضد أنظمتها السلطوية قبل وأثناء وبعد حالة التغيير،
وكان أبرز مظاهر هذا الدور هو:
1- دور الوسائل التكنولوجية وشبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)، وما يتبعها من مواقع التواصل الإجتماعي كالفيسبوك، وتويتر، ويوتيوب، وغيرها، ومن المعروف أن هذه المواقع ترتبط بالإدارة الاميركية سواء بنحو مباشر أو غير مباشر بحكم سيطرتها العالمية على الفضاء الدولي، ومن ثم أصبحت هذه المواقع أكبر المواقع لجمع المعلومات عن الشعوب، ومن هنا نلاحظ كيف تم توظيف هذه الوسائل والمواقع في عمليات تغيير الأنظمة، وهذا ما حدث في تونس ومصر وليبيا عن طريق التأثير في الرأي العام لشعوب هذه الدول وتعبئتها لإسقاطها.
2- دور المدربين والمندوبين الاميركان في إعداد الشباب في الدول العربية وتدريبهم على أساليب التأثير غير العنيف، من أجل إحداث حالة من التغيير في قيادات بعض الدول العربية من الذين فقدوا شعبيتهم، وتحت شعار تحقيق الديمقراطية، فضلاً عن ذلك عملت الولايات المتحدة على توثيق علاقاتها ببعض المفكرين العرب والصحفيين لا سيما المعتنقين للفكر الليبرالي، وفتحت معهم قنوات للتواصل عن طريق منظمات المجتمع المدني وغيرها.
وبخصوص الموقف الاميركي من ما يسمى بـ(ثورات الربيع العربي)، وفي مقدمتها الثورة التونسية (التي إندلعت في 17/12/2010 وأستمرت لغاية 14/1/2011) فقد أتسم الموقف الاميركي من بداية الثورة بالتجاهل والصمت خلال الأسبوعين الأولين من الثورة رغم العنف الذي أستعمله نظام الرئيس زين العابدين بن علي ضد المتظاهرين، وبعد فشل قوات الأمن التونسية في قمع الثورة بدأت الإدارة الاميركية تصرح بأن على النظام التونسي أن يحترم إرادة الشعب، وبعد نزول الجيش إلى الشارع أخذت إدارة الرئيس باراك أوباما تطالب الرئيس التونسي بالتنحي، كما طالبت من الجيش حسم الموقف ووقف التدهور الأمني، وفي خطاب حالة الإتحاد للرئيس أوباما أشاد بالشعب التونسي، وأن الولايات المتحدة تدعم التطلعات الديمقراطية لكل الشعوب.
وإما بخصوص الموقف الاميركي من الثورة المصرية (التي إندلعت في 25/1/2011 وأستمرت لغاية 11/2/2011) فقد أتسمت المرحلة الأولى من إندلاع الأحتجاجات بالحذر والترقب، والدعوة إلى عدم أستعمال العنف ضد المتظاهرين، ولكن مع تصاعد وتيرة الأحتجاجات ومشاركة أغلب أطياف الشعب المصري فيها، ووصولها إلى مرحلة لا يمكن إخمادها داخليا من قبل الأمن المصري دعت الإدارة الاميركية نظام الرئيس محمد حسني مبارك إلى إتخاذ خطوات من أجل عملية التحول الديمقراطي منها: إلغاء قانون الطوارئ، وإحتواء المعارضة، وإنهاء الفساد، ومن ثم جاء التحول الأبرز على الصعيد الداخل المصري والذي تمثل بتنحي الرئيس محمد حسني مبارك عن الرئاسة في 11/2/2011، وتسليم السلطة إلى المجلس العسكري الإنتقالي، وعلى أثر هذه التطورات دعا الرئيس الاميركي باراك أوباما الجيش المصري إلى ضمان عملية إنتقالية تتصف بالمصداقية، كما أثنى على الشعب المصري.
ويلخص (نعوم تشومسكي) ما جرى في تونس ومصر بالقول: «إن مصر وتونس والدول المثيلة لها التي لا تعد مصدرا أساسيا للنفط فتوجد لها خطة يتم تطبيقها نمطيا فإذا كان لديك ديكتاتورا مفضلا يواجه مشاكل فقف بجانبه حتى آخر مدى ولكن عندما يستحيل الإستمرار في دعمه لأي سبب مثل أن يتوقف الجيش عن دعمه فقم بإرساله إلى مكان ما ثم أصدر تصريحات رنانة عن حبك للديمقراطية ثم حاول الإبقاء على النظام القديم لكن بأسماء جديدة».
وفيما يتعلق بالموقف الاميركي من الثورة الليبية التي أستمرت من (17/2/2011 ولغاية 23/10/2011) فقد أتسم الموقف الاميركي في البداية بمعارضة التدخل العسكري سيما وأن الولايات المتحدة كانت تعاني من مشاكل تدخلها العسكري في أفغانستان والعراق، ولكن مع تصاعد الرفض الإقليمي وحتى الدولي لنظام الرئيس معمر القذافي، وبسبب إستعمال العنف المفرط من قبل الشرطة والجيش الليبي ضد المتظاهرين حصل تغير في الموقف الاميركي، حيث فرضت إدارة الرئيس باراك أوباما عقوبات إقتصادية تضمنت تجميد الأصول المالية والبالغة 37 مليار دولار لكل من الرئيس معمر القذافي، وأفراد عائلته ورموز نظامه وبعض الدوائر المقربة منه، كما طالب أوباما الرئيس الليبي بالتنحي فوراً، كما تم التواصل إلى توافق أمريكي دولي حول ليبيا الذي تمثل بصدور قرار مجلس الأمن رقم (1970)، وأبرز ما تضمنه فرض حظرا على بيع الأسلحة والذخائر إلى ليبيا، ومنعا للسفر للرئيس الليبي وأبنائه وأشخاص على صلة وثيقة بالنظام، كما وصف الهجمات الواسعة ضد المدنيين بأنها ترقى إلى تصنيف الجرائم ضد الإنسانية، وعليه قرر مجلس الأمن رفع الوضع في ليبيا منذ 15 شباط 2011 إلى مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية وطلب من السلطات الليبية التعاون الكامل مع المحكمة.
وفي السياق ذاته صدر قرار مجلس الأمن الذي حمل الرقم 1973 الذي فرض منطقة حظر جوي فوق ليبيا، وإتخاذ كافة الإجراءات الضرورية لحماية المدنيين، وتشديد أكثر ضد الأصول المالية لليبيا وحظر أقوى على السلاح.
ولم تكتفِ الولايات المتحدة بهذه الضغوط والمطالبة العلنية لـمعمر القذافي بالتنحي عن الرئاسة كونه أصبح من وجهة النظر الاميركية فاقد للشرعية، بل تدخلت عسكريا وبنحو مباشر في 19/3/2011، وحملت العملية العسكرية أسم (فجر الأوديسا)، وبمشاركة فعالة من قبل حلف الناتو والدول المتعاونة مع الحلف، وبعد النجاح في إسقاط معمر القذافي، صدور قرار مجلس الأمن ذي الرقم (2016) في 27/10/2011 ، الذي قرر إنهاء العمليات العسكرية ضد ليبيا في 31/10/2011.
وعند تطبيق إستراتيجية القوة الذكية الاميركية على المنطقة العربية، وتحديدا في كيفية تعاملها مع ما يسمى بالربيع العربي أو الثورات العربية نلاحظ أن الإدارة الاميركية برئاسة باراك أوباما قد تعاملت مع الثورة التونسية والمصرية على أساس سياسة القوة الناعمة، حيث لم تلجأ إلى الوسائل العسكرية والإقتصادية وأستعمالهما ضدهما بصيغتها الإكراهية، وإنما لجأت إلى الإعتماد على الوسائل التقنية وما تنطوي عليه من وسائل التواصل الإجتماعي، ومن ثم دور الشباب المتأثر بالأفكار الديمقراطية في إحداث التغيير.
في حين مثل التعامل الاميركي مع الثورة الليبية بأستعمالها أسلوب القوة الصلبة سواء على الصعيد الإقتصادي أو العسكري إلى أن تم التغيير المطلوب.
وبغض النظر عن الآثار والتداعيات المترتبة على هذه الثورات سواء على الصعيد الداخلي لدولها أو على الصعيد الإقليمي، فعند تقييم إستراتيجية القوة الذكية نلاحظ نجاحها سواء على الصعيد التكتيكي من حيث الوسائل المتبعة أو على الصعيد الإستراتيجي من حيث الأهداف التي تسعى القوة الذكية إلى تحقيقها والحالة التي تم تطبيقها في المنطقة العربية.

* مركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية / 2001 – 2018

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة