د. تراشيا بايكون
(الحلقة الأولى)
في ظل المتغيرات الملفتة التي شهدتها السياسة الأميركية مؤخراً تجاه بعض الدول التي تثار حولها الشبهات بدعمها وتمويلها للمنظمات الإرهابية وجه الكونجرس الأميركي بتشكيل العديد من الفرق للتقصي والتحقيق في الكثير من الاتهامات التي وجهت من قبل منظمات دولية ووسائل إعلامية لدول يشك في دورها الداعم للإرهاب، ويسلط التقرير الذي تضعه “الصباح الجديد” بين ايدي القراء على اضطلاع جهات حكومية باكستانية بهذا الدور، ويقدم التقرير الجهد الذي قام به ثلاثة خبراء أميركان في شرح علاقة الدولة الباكستانية وجيشها بالعديد من المنظمات الإرهابية التي تقاتل وتقوم بالأعمال الإرهابية في الهند وباكستان، وقدم هؤلاء الخبراء الثلاثة شهادات أمام الكونجرس الأميركي تؤكد تورط باكستان بتمويل وتدريب هذه المنظمات .
باكستان.. هل هي صديقة أم عدوة في الحرب على الإرهاب؟
يتعاون ثلاثة خبراء أميركيين على تقديم شهادات أمام الكونغرس تشرح علاقة الدولة الباكستانية وجيشها بالجماعات الإرهابية. وتشير الشهادات إلى أن الإرهاب في باكستان سياسة رسمية مدعومة من الجيش ضد الهند وأفغانستان، ولكنها تخلو تماماً من الإشارة التفصيلية إلى الإرهاب الذي تمارسه جماعات الإرهاب ضد الشيعة في الداخل، ففي معرض الحديث عن الجماعات الخيرة والجماعات الشريرة، تلمح تراشيا بايكون إلى العنف الطائفي الذي تقوم به جماعة عسكر جنجوي، ولكن إشارتها لا ترقى أبداً إلى مستوى الجرائم التي تمارسها هذه الجماعة بحق الشيعة الباكستانيين. هذه الجرائم التي يشرحها بالتفصيل أندرياس ريك في كتابه عن «الشيعة في باكستان» في الفصل الأخير من هذا العدد.
الصورة كما يضعها الخبراء أمام الكونغرس الأميركي وأخطرها الصورة التي تقدمها الدكتورة تراشيا بايكون، تصل إلى حد وصف التعاون بين الجيش الباكستاني والمنظمات الإرهابية بأنه ضرورة لكلا الطرفين لا يمكن أن يجري التخلي عنها بالمدى المنظور، ما يعني أن العلاقة أصبحت بنيوية وليست تحالفاً بين طرفين وانفكاكها سيهدم من الدولة ما لا يمكن للطرفين تحمله.
بالنسبة لنا هذا يعني أن دوامة العنف ضد الشيعة ستستمر، إلا إذا أسهمت الدول والقوى الشيعية في العالم وعلى رأسها الأحزاب الشيعية الباكستانية في التخفيف من أثر ذلك التحالف الجهنمي في الوجود الشيعي في باكستان.
يبدو أنه لا يمكن لأي عمل إرهابي يحدث في باكستان ومهما تعاظم حجمه أن يكون قادرًا على أن يثني المؤسسة الأمنية في البلاد عن دعمها لما تسميه «الميليشيات الخيرة» وأن تتخلى عنها، وهي تلك الميليشيات التي ترى المؤسسة الأمنية الباكستانية فيها نقطة القوة. عوضًا عن ذلك، فإن العلاقات التي تجمع ما بين السلطات الباكستانية والجماعتين المناهضتين للهند المتمركزتين في إقليم بنجاب، عسكر طيبة وجيش محمد من جهة وبين هذه السلطات والجماعتين المتمردتين داخل أفغانستان، شبكة حقاني وحركة طالبان الأفغانية من جهة أخرى، يبدو أنها ستظل مكوّناً أساسياً لا غنى عنه في إطار السياسات الأمنية الباكستانية الداخلية والخارجية. علمًا بأن واحداً من الأسباب الرئيسة التي بسببها لم تسطع الهجمات الإرهابية داخل باكستان أن تحمل الجيش على تغيير حساباته في وجه هذه الجماعات الأربع هو أنها في أغلب الأحيان غير ضالعة بالعنف داخل باكستان، إذ إنّها تركز جهودها خارج البلاد، مبدئيًا في أفغانستان، أما في حال عسكر طيبة وجيش محمد فهما منخرطتان كذلك في الهند.
إن هذه العقلية تعكس لنا الحسابات الثلاثية التي تبنيها المؤسسة الأمنية الباكستانية تجاه هذه الجماعات الميليشياوية، والتي سأسلط الضوء عليها في شهادتي أمامكم اليوم.
أولاً وقبل كل شيء، فإن باكستان تنظر إلى هذه الجماعات وتحكم عليها من منظار الفائدة التي تقدمها في وجه الهند، إذ إن الفكرة والتخوف الراسخين لديها هما أن الهند لن تتخلى يومًا عن موقفها المعادي لباكستان، إلى جانب النزاع المستمر بينهما حول إقليم كشمير. إذ لا يخفى على أحد أن باكستان لا تملك لنفسها مفاصل حل معضلة النزاع الأمني مع الهند، بالتالي فإنها تبقي على هذه العلاقات التي تجمعها مع الجماعات الإرهابية التي تعارض بدورها الهند، هذه المعارضة التي بمحصلتها تعلق أفغانستان بوصفها جزءا لا يتجزأ من استراتيجيتها الإقليمية. ينضوي تحت هذه الاستراتيجية تقديم باكستان الدعم لكل من حركة طالبان الأفغانية وشبكة حقاني اللتين كانتا وليدتي رحم الخوف الباكستاني من التهديد الهندي والرغبة في الحؤول دون فرض الهند سيطرتها على الحدود الباكستانية الغربية. وعليه فإن المؤسسة الأمنية الباكستانية كانت قادرة على أن تروّج داخل المجتمع الباكستاني سيناريو مفاده أن الخطر الذي تشكله الهند على باكستان هو خطر وجودي، وبأن الخلاص لن يكون إلا على يدي الجيش إذ إنّه الوحيد القادر على تأمين الآمان داخل البلاد، وبالتالي فإن هذا الأمر يبرر استمرار العلاقات التي تجمع ما بين هذه المؤسسة الأمنية والجماعات الميليشياوية. وما دامت الجهود العسكرية الباكستانية الرامية إلى تحقيق التوازن مع الهند ما انفكت تفشل، وما دام الوضع الأمني في أفغانستان مستمراً في التدهور فإن باكستان ستظل ترى مصلحتها لدى شركائها من الميليشيات.
ثانيًا، فإن المؤسسة الأمنية تقيّم تلك الجماعات الميليشياوية بالاستناد إلى مدى تأثيرها في التهديد الذي تواجهه باكستان؛ إذ إن الميليشيات التي تعرف باسم «الميليشيات الخيرة» لا تكتفي باستثناء الأراضي الباكستانية من هجماتها وحسب إنما البعض منها أيضًا، وعلى وجه الخصوص عسكر طيبة، يثني غيره من الجماعات عن القيام بالهجمات العنيفة داخل البلاد. أضف إلى ذلك أنه لا يسهو عن بال المؤسسة الأمنية أن قطع العلاقات مع هذه الجماعات إنما يقود في المحصلة إلى تكاثر الأعمال الإرهابية بصورة كبيرة داخل البلاد، ما قد يذهب أبعد من حدود المقدرة المدنية والعسكرية المحدودة للحكومة الباكستانية وبالتالي لن تتمكن من الوقوف في وجهها. وعليه فإن إدارة الظهر لهذه الجماعات الحليفة إنما يفتح الباب أمام احتمال تحويل البندقية نحو الداخل وبالتالي لا شك في أنّ التهديد الإرهابي سيتعاظم بنحو مخيف داخل باكستان.
ثالثًا، الجيش الباكستاني يقيس مقدرته على تجريد هذه الجماعات الميليشياوية وهزيمتها، إذ لا يخفى أن باكستان ما تزال تفتقر إلى المؤسسات المدنية الضرورية، من أجل التعامل مع الإرهاب. وبالتالي فلا شك في أنّ مهمة الوقوف في وجه هذه «الميليشيات الخيرة» ستقع على عاتق الجيش. ومع ذلك فإن اعتماد المقاربة العسكرية وحدها لن يكون كافيًا قد تكون نتائجها عكسية من ناحية التعامل مع المعضلة. أما في حال عسكر طيبة وجيش محمد، فإن أي مواجهة قد تطرأ ستكون ساحتها في قلب إقليم بنجاب الخاضع للجيش وبالتالي هو قد يواجه مقاومة من داخل المؤسسة العسكرية ومن السكان في بنجاب أيضًا. أما إذا ما اختار الجيش المواجهة مع شبكة حقاني وحركة طالبان الأفغانية فإن هذا الخيار لن ينجم عنه إلا مفاقمة الوضع الأمني المتزعزع أصلاً إن داخل المنطقة القبلية الخاضعة للإدارة الاتحادية أو في بلوشستان بالتوازي.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه في حال رغبنا في تقييم قدرات هذه الجماعات الأربع الأساسية الحليفة للجيش، إلى جانب تقييم العلاقة التي تربطهم بالمؤسسة الأمنية الباكستانية، لا بدّ لنا من أن نأتي على ذكر النمط الذي تطورت في إطاره هذه العلاقات. ففي أعوام التسعينيات كان الجيش الباكستاني يزود هذه الجماعات وغيرها من الجماعات بالمساعدة الأساسية، بما في ذلك تأمين المصادر والأسلحة والتدريب حتى الغطاء العسكري وتأمين الملاذ لهم من أجل تمكينهم من عبور الحدود، وعليه يمكن القول إنّ الجيش كان مضطلعًا إلى أبعد الحدود مع حلفائه من الجماعات الميليشياوية.
أما في ظل الضغوط التي فرضتها كل من الولايات المتحدة والمجتمع الدولي، فإن المؤسسة العسكرية عمدت إلى تغيير السياسة التي كانت تعتمدها في معرض تعاونها مع الحلفاء من الميليشيات، حتى إن هؤلاء الحلفاء أنفسهم قد اعتادوا هذا التغيير وألفوه. في وقتنا الحالي، وعلى حدّ علمنا فإن أهم ما تقدمه المؤسسة الأمنية لهذه الجماعات يتمثل في توفير الملاذ الآمن والحماية لها، وبصورة عامة يمكننا القول إن هذه السياسة تشكل النمط الأقل نشاطًا مقارنة بالدعم الذي كانت تقدمه في السابق. فعلى أرض الواقع لا يستلزم تأمين الملاذ الآمن سوى غض الطرف عن هذه الجماعات وعدم التصرف في وجهها، على الرغم من أن القوات الأمينة تذهب أبعد من ذلك، إذ إنها لا تتوانى عن المسارعة في تأمين الحماية لهؤلاء الحلفاء أيضًا. أما في إطار الأجواء الحالية، لا يمكن إنكار أن الملاذات الآمنة هي أكثر وأهم ما بمقدور الجيش أن يوّفره لهذه الجماعات، فتحت المظلة التي تؤمنها المؤسسة الأمنية الباكستانية باتت جماعات كل من عسكر طيبة وجيش محمد وشبكة حقاني وحركة طالبان الأفغانية تتحلى بالمقدرة الذاتية وتكاد تصبح منظمات ذات اكتفاء ذاتي، هذا عدا عن الملاذات الآمنة التي لا بد لها منها. إضافة إلى أنها لا تفتقر أبدًا إلى مصادر غنية أخرى قادرة على تزويدها بالمال والعتاد والسلاح، إلى جانب الملاكات التي لا بأس بها من العناصر المدربة والمتمرسة. وفي هذا المجال لا يسعنا إلا القول إنّ الجيش الباكستاني أدى مهمته على أكمل وجه، حيث إنّ هذه الجماعات لم تعد تعتمد بعد اليوم على الدعم المباشر والصريح من الجيش، على الرغم من أنها ما تزال تعتمد بين الفينة والفينة الآخرى على هذا الدعم الفاعل على شاكلة ما قدمته الاستخبارات المركزية من مساعدة لقوات عسكر طيبة في أبان التخطيط للهجمات التي شهدتها مومباي في عام 2008، ولكن الدعم الأكثر أهمية الذي ما تزال هذه الجماعات تتلقاه من الجيش هي الملاذات الآمنة، ولا ضير من التكرار هنا أن هذه الجماعات الأربع تقوم قبل كل شيء على هذه الملاذات الآمنة.
ولا شك في أن مركزية هذه الملاذات الآمنة تطرح مسألة كبرى لا بد من التطرق إليها، إذ إنها ذات تأثير في مدى سطوة الجيش على هذه الجماعات الحليفة له. وهي استطاعة الجيش أن يعيد إطلاق حركات جديدة من الدعم تكون ذات نطاق أوسع وفاعلية أكبر، ولكن حتى هذه المرحلة يمكن القول إن الضغوط التي مارستها كل من الولايات المتحدة والهند والمجتمع الدولي استطاعت أن تثني باكستان بصورة كبيرة عن الدعم الذي تقدمه لهؤلاء الحلفاء. إلى جانب أن سطوة الجيش على هذه الجماعات باتت في أغلب الأحيان قهرية فمنبع القوة الذي تتحلى به هذه الميليشيات يتأتى من قدرتها على توسعة نطاق ملاذاتها الآمنة وتحييدها عن العلن.
إنّ العلاقات التي تجمع ما بين الجيش وكل من عسكر طيبة وجيش محمد وشبكة حقاني وحركة طالبان الأفغانية إن هي إلا مطواعة، ففي النهاية فقد استطاعت هذه العلاقات أن تحافظ على مفاصلها على الرغم من الأحداث التي جرت في 11 أيلول والتداعيات التي وقعت على إثرها. ففي حين أن الولايات المتحدة لم تكن راضية البتة عن الجهود والدعم الذي كانت باكستان تقدمه آنذاك في سبيل محاصرة الإرهاب، فقد رأت هذه الميليشيات التي كانت فيما مضى حليفة لباكستان، في تعاون هذه الأخيرة مع الولايات المتحدة على أنه خيانة لها. وبالتالي ما كان منها إلا أن أدارت بندقية أعمال العنف التي تقوم بها في وجه سيدها. أما بالنسبة إلى باكستان فقد تجلى الأمر بأسوأ ما في الجانبين، ولكن وعلى الرغم من ذلك فإن هذه الجماعات الأربع الآنفة الذكر لم تتخل عن العلاقات التي كانت تربطها بالدولة الباكستانية، ولم تتأخر في الاستفادة إلى أقصى الحدود من هذه العلاقات.
ثلاثة أسباب جوهرية ما تزال هي المسيطرة على حسابات المؤسسة الأمنية الباكستانية، وهي:
1 – الخدمة التي تقدمها الجماعات الحليفة في وجه الهند وأفغانستان.
2 – وفي الوقت نفسه منع هذه الجماعات وكبحها عن تشكيل الخطر على الداخل الباكستاني.
3 – مقدرة الجماعات على تهديد الأمن الداخلي، مقابل مقدرة محدودة للمؤسسة الرسمية الباكستانية على الوقوف في وجهها …
كل هذه العوامل مجتمعة تعزّز العلاقات التي ما تزال مستمرة، وتضمن أن هذه الروابط ستظل على ما هي عليه عصيّة على التقويض، في المستقبل المنظور في الأقل.
في الغد الحلقة الثانية