يبدو أن شراهة المحاصصة لم تستثن المؤسسات والهيئات المعنية برعاية الطفولة في عراق ما بعد “التغيير” حيث تعيد الوزارات والإدارات المعنية بهذه الشريحة المهمة من المجتمع، توزيع نفس الملاكات والشخصيات المرشحة من قبل الكتل المتنفذة لقيادة هذه المسؤوليات الخطيرة. إن إدارة مثل هذا الملف (رعاية الطفولة) يختلف عن بقية الملفات الأخرى، لما يتسم به من خصوصيات، ويعد التعاطي معه وفقاً لحاجات ومعايير المحاصصة، جريمة لا تغتفر لما يلحقه ذلك من أضرار فادحة على مصير هذه الشريحة بنحو خاص والمجتمع بنحو عام. لقد جرّت الحروب المتتالية وعلى مدى عقود، ويلات وكوارث لا مثيل لها على سكان هذا الوطن المنكوب، وكان تأثيرها على الأطفال العراقيين واسعاً وعميقاً، وبمقدورنا تلمس ذلك فيما ينضح من مشكلات نفسية وسلوكيات غير متوازنة، لقطاعات واسعة من الأجيال الحالية، التي عاشت طفولتها من دون أن تحظى بأدنى رعاية واهتمام من قبل الأسرة والدولة والمجتمع. ما نحصده اليوم من تدهور قيمي وأخلاقي وانسداد في الآفاق، لا يمكن فصله عما تم زرعه بالأمس، وما يحصل اليوم من انعدام للمسؤولية في التعاطي مع هذا الملف الحيوي، سيشكل عقبة كبيرة أمام الأجيال المقبلة. لقد خلفت الحروب والسياسات المتهورة للنظام المباد، وامتداداتها بعد زوال سلطته شكلياً، آثارا لا يمكن أن تمحى بسهولة من أعماق الملايين من الأيتام والمشردين، هذه الأعداد الهائلة تحتاج الى ملاكات مسكونة بروح الإيثار وخدمة الشأن العام، الى ملاكات تجد نفسها في مثل هذه النشاطات غير التقليدية، وتمتلك الموهبة والكفاءة في خدمة وإدارة مثل هذه المسؤوليات الخطيرة. مثل هذه الملاكات موجودة وبشكل غير محدود في مجتمعنا، وقد شاهد الكثير منا ذلك، في جماعات العمل والنشاط الطوعي التي ظهرت في غير مكان من بلدنا، لكن مخلوقات ومعايير المحاصصة هي من تعيق هذه الثروات والإمكانات البشرية في الوصول لأهدافها وغاياتها النبيلة. إن الالتفات لملف الطفولة والشروع بإجراء التحولات النوعية في التعاطي معه وتحريره من سطوة شبكات الفساد واللا أبالية والإجرام، بمقدوره أن يحدث تغييرا جدياً في ركود المشهد الراهن، والذي يحتاج الى الكثير من الجهد والقرارات الشجاعة كي نطمئن المجتمع الدولي حول استعدادنا لمرحلة البناء وإعادة الإعمار.
إن توجيهات وزير الداخلية السيد قاسم الأعرجي الأخيرة، جاءت منسجمة والمادة (29) ثالثاً من الدستور: (يحظر الاستغلال الاقتصادي للأطفال بصوره كافة، وتتخذ الدولة الإجراء الكفيل بحمايتهم) وهي تؤكد خطورة ما تتعرض له هذه الشريحة (الأطفال) من استغلال بشع وبعيد عن كل قيم الشهامة والشرف؛ حيث صدرت التوجيهات للقبض على كل من يثبت تورطه بامتهان ظاهرة التسول، عبر استغلال الأطفال، وأن تباشر الأجهزة الأمنية المعنية بالقضاء على تلك الشبكات والعصابات. لكن هذه التوجيهات وحدها ستظل عاجزة عن تقديم المعالجة الجذرية لمثل هذه الظواهر التي تفاقمت بشكل مريع في السنوات الثلاث الأخيرة، فهي تحتاج أن تكون جزءا من حلقات متعددة ومتكاملة في التعاطي مع هذا الملف الخطير. على الحكومة العراقية أن تضع هذا الملف بيد ملاكات مدنية وأمنية، لا تمت بصلة لديناصوراتها المجربة في هذا المجال وغيره من مجالات العمل الاجتماعي والأمني والتربوي، وفي هذا التوجه يمكن للشرطة المجتمعية أن تلعب دوراً مهماً بالتعاون مع شخصيات وجماعات برهنت على جديتها وحرصها وعلاقتها بمثل هذه الهموم والاهتمامات..
جمال جصاني
الطفولة والمحاصصة
التعليقات مغلقة