كه يلان مُحمَد
قراءة روايات ستيفان زفايغ تعنى الحفر في الذات الإنسانية على مستوى أعمق، إذ يَغُوضُ المرءُ مع مؤلف (عالم الأمس) نحو طبقات مجهولة متوقعاً إكتشاف الدوافع الكامنة في تصرفات الإنسان، ومُحثات قراراته التي قد تتسمُ بالتعقيد ،وتتلفع بالألغاز،هذا ماتراه بالوضوح في رواية (أربع وعشرون ساعة في حياة إمرأة). التي تتناول تجربة سيدة إنكليزية مع شاب مُقامر،إذ تبوحُ بقصتها للراوي حينما تجده مختلفاً في موقفه إزاء هروب هنريت زوجة الرجل الغني مع شاب فرنسي، إذ تتقاطع تجربة السيدة (س) مع قرار هنريت بترك زوجها إلى حدما،وفي رواية (رسالة من مجهولة) الصادرة مؤخراً من مسكيلياني بترجمة أبو بكر العيادي ،يبنى ستيفان زفايغ روايته على ثيمة حب صبية تقع في غرام رجل أكبر منها،غير أنَّ مشاعر الحب الطافحة ستظل مكتومةً،ولاتفضي بها،مع أن العاشقة تتمكن من إقتناص الفرص للوصول إلى شقة الرجل الذي نراقبه من موقع صاحبة الرسالة،إذ ندرك بأنه شخصية مشهورة على نطاق الواسع وأن مايتمع به ذلك الرجل من المواهب في الموسيقى والكتابة أكسبه كثيراً من المُعجبات،تراقبُ الصبية تفاصيل حياة الكاتب وتبدأُ بقراءة الكتب بنهم مُتخيلةً بأنَّ ذلك يضيقُ المسافات بينها وبين شخصية العشيق،كما تدربت على عزف الموسيقى ظناً منها بأن الجار الجديد يحبُ الموسيقى، وأخذت تهتم بملبسها ومظهرها أكثر حتى تبدو بصورة مُتكاملة جديرة بمقام من وقعت في حبه،فهو قد أصبح كوناً بالنسبة إليها،ويستمدُ كل شيء أهميته بقدر علاقته بذاك الرجل،وكثيرا ماتسهرُ مترقبة عودة الكاتب إلى شقته،لاينكمشُ الحبُ بمرور الأيام ولا بالإبتعاد بل يظلُ ساكناً في قلب وخيال تلك الفتاة دون أن تبوحَ به لكن يقعُ في الأخير مايولد لديه الرغبة لِإظهار ماكان دفيناً في القلب.
صدمة
لم تدُم مجاورة الصبية للكاتب الذي كان ساهياً عن ذلك الحب الذي دفع بجارته أن تلثم بابه عندما يغيبُ ولم تسعها الدنيا على رحابتها حينَ لمست الطريق إلى مأوى حبيبها متأملةً مايحتويه من الأغراض والكتب،واللوحات إذ أن ماتسمعه من أمها الأرملة بأن قريبها الذي كان وجوده المكرر قد أثار ريبة الإبنة قد طلب يدها يصدمها وذلك ليس خوفاً من وجود رجل يفصلها عن الأم بل لأنَّ زواج الأم من جديد مع فرديناند يعني الإنتقال إلى مدينة أُخرى (إنسبروك) والإبتعاد عن الكاتب الذي هامت به عشقاً،ولايخففُ شيءُ مرارة الغياب خلال العامين اللذين تقضيهما بعيدة عنه غير إقتناء المؤلفات التي تحمل إسم عشيقها،فهي حفظت كل سطر من كتبه في ظهر القلب، وإنَّ حالفها الحظُ وتقعت عيناها على إسمه في صحيفة إعتبرت هذا اليومَ عيدها،أحجمت عن المشاركة في الرحلات ولاإرتادت دور المسرح ،والفساتين التي تُشترى لها لم تتزين بها،ولم تكتفِ بذلك إنما قاطعت تلك المدينة وما إستأنست بشوارعها وأزقتها خيبت آمال الشباب والفتيان الذين يتهافتون حولها،كأنها نذرت نفسها لمصير مُبهم،وقدر غامض
مَهْوى القلب
يقولُ الروائي الجزائري أنَّ المدينة التي لاتُعطيك الحب لاتستحقُ أن تمضي فيها لحظةً من عمرك،هذا ماتؤمنُ به بطلة رواية ستيفان زفايغ،لذا لاتريدُ أن تقضيَ مزيداً من أيام عمرها خارج مدينة فيينا التي ذاقت فيها طعمَ الحب إذ تعودُ إلى تلك المدينة وتجاهلت من إعتبر هذا القرارا جنوناً،وما أن تصل إلى فيينا حتى تتجه إلى العمارة التي يقيمُ فيها الكاتبُ حيثُ تجدُ نوافذ شقته مضاءة إذذاك تشعرُ بأنها نجحت في إسْتِعادة الحياة،وتستمرُ في إرتياد هذا الموقع كل مساء بعد إنتهاء عملها بالمغازةِ، وُتصادفه يوماً مقبلاً نحوها في الشارع وفي هذه اللحظة تعودُ صبية يفيضُ قلبها حباً وإعجاباً تكررُ اللقاءات المُتقطعة،وعندما يمرُ عليها بصحبة معجباته تنتبهُ إلى ما يخالجها من مشاعر مختلفة وتدركُ بأنها لم تَعُدْ طفلة لاتشعر بالغيرة ولاتستغربُ من إستئناس حبيبها مع جسدِ غير جسدها،فيما ظل جسدها بكراً ما طاف بمدارات اللذة فإن الكاتب إختبر أصناف اللذات،ومشى مع تيارها،وحين تكتشفُ بأنها نكرة بالنسبة إليه تتألم إذ يتمقص زفايغ شخصية المرأة ناطقاً بإسمها في جملة مُحملة بصرخة نسوية «إن الرجلَ يُمكنه أن يضيع بكل يسر وجه إمرأة لأنَّ السن تغير فيه الظلال والضوء»
جنون الحب
وبما أن الحُبَ قد أخذ بمجامع قلب الفتاةِ لذلك لاتفوت فرصة مصاحبة الكاتب إلى شقته مُستعيدةً تلك اللحظات التي كانت تترقبُ فيها عودة جارها وتستمع إلى وقع خطواته وصرير الباب،إنْ كان هذا اللقاء بدا عادياً وروتيناً لدى الكاتب فالأمر له وجه آخر بالنسبة لتلك الفتاة التى وهبت نفسها للرجل لأول مرة في ثلاث ليال مُتتالية،وماحملته في أحشائها كان ثمرة هذه المُغامرة غير المحسوبة،وبإنجاب طفلها تَقْتنعُ بأنها قد إمتلكت جزءاً من ذاك الرجل، هنا ترى ظلال فلسفة نيتشة الذي كان يعتقدُ بأن المرأة لايهمها من الحب والزواج غير عملية الإنجاب،وينقطعُ اللقاءُ ولايجدى إنتظار الفتاة التي تصبحُ بائعة الهوى لتتكفل نفقات إبنها وتوفر لها مستوى تعلمياً مميزاً بواسطة لورد مُسن،بينما تجمع الصدفة بين الإثنين في مرقص تبارين وهي برفقة شاب ثري،يطلبها الروائي الشهير أن تعطيه ساعةً ولاتُمانع الفتاةُ مرة أخرى تصاحبه إلى مرتع الصبا بعد ليلة صاخبة تغادر والفلوس التي يمنحها الكاتبُ مقابل المتعة تتركها للخادم يوهان متحاشية نظراته مخافة أن يتعرف عليها، وفي ذلك المشهد أكثر من مُفارقة تثيرُ الأسئلة لدى المُتلقي لعَّل من أبرزها تجاهل الرجل لغليان الحب والعاطفة والوقوف عند حدود الجسد والرغبات الحسية،يعتمدُ مؤلفُ (الخوف) على تقنية الرسالة إذ مايتابعهُ القاريء من إفتتحاحية الرواية القصيرة Novella إلى نهايتها ماهي إلا رسالة كتبتها تلك الفتاة العاشقة قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة وإحترق قلبها بموت إبنها،وأنَّ مجرد وصول الرسالة إلى الكاتب في يوم عيد ميلاده ينبيء بموت الفتاة لأنَّ الأخيرة تقول إذا أمهلها القدر فرصة أخرى لإحتفظت بسر الحب في تجاويف القلب،ومايتغير بموت الفتاة في حياة الكاتب هو غياب الأزهار في مزهريته،مايرمي إليه ستيفان زفايغ من كتابة مؤلفاته السيرية الروائية هو ترصد عواطف ملتبسة للإنسان وأطواره المُتقلبة .